ذائقة المتلقي.. الصخرة الأولى التي تواجه بادرة المبدعين وهي تخترق عمق التراب صاعدة نحو الشمس، وهي أخطر ما يصطدم به المبدع في أي لون من ألوان الفن والأدب والثقافة. وعلى هاتيك الصخرة يؤسَّسُ الانطباع الأولي وما يتبعه من إعلام وتوزيع ومبيعات. وأقسى ما في الذائقة العامة هو معيار القيمة النفعية المباشرة والنمطية المألوفة التي تستهجن الإبداعات المجددة . وويل للمبدع حين يخرج عن «ذائقة القطيع» كما سمَّاها القاص يوسف المحيميد في إحدى حواراتنا.
ولطالما واجهت أعمال إبداعية جديدة بلادة الذائقة العامة أو تعنت نقاد مدرسيين أعلنوا بطلان وتفاهة ذلك الجديد، ثم ما لبثوا يسيراً من الزمن حتى عادوا عن رأيهم و أعلنوا عظمته. ولعل أشهر مثال هو التشكيلي الهولندي فان كوخ الذي واجه نقدا مسفهاً لكل أعماله، فلم تكد تنتهي سنة يتيمة من موته كمداً من النقاد وفقراً مدقعاً من ريع فنه، حتى غدت لوحاته من أثمن اللوحات فنياً ومالياً!!، ويصحُّ الأمر كذلك على الروائي الألماني كافكا. هذا يعني أن معيار الذائقة العامة والانتشار والذيوع من قبل الجمهور أو النقاد ليس معياراً دقيقاً. وقد استفاد الغربيون من تلك التجارب، وفتحوا الفضاء للمبدع عبر تحرير الذائقة من قيود النمطية قدر الإمكان، وتقبلها للتغيير..
يبدأ تذوق العمل الإبداعي من خلال فهمه واستيعابه، وعدم الفهم أو الطلسمية هي التهمة الأولى للمبدع المجدد.. يذكر أن رجلا اعترض على بيكاسو متهما لوحاته بالطلاسم وقلة الذوق ، فرسم له بيكاسو لوحة نمطية مألوفة المعنى والمبنى بها سنابل تتناثر أسفلها الحبوب، فأعجب الرجل كثيراً بما رآه جمالاً فنيا ، فما كان من بيكاسو إلا أن أحضر دجاجة ، فتوجهت على الفور للوحة تنقرها رغبة في الحبوب، حينها قال بيكاسو: أنا أرسم للبشر وليس للدجاج! ولعل أشهر مثال عربي لنا هو الشاعر أبو تمام في بدائعه وإبداعاته ؛ حين قيل له لماذا تقول ما لا يفهم ، فقال لماذا لا تفهمون ما يقال؟ وأبو اسحق الصابي يقول:«أفخر الشعر ما غَمُضَ، فلم يعطِك غرضه». وقديما قالت العرب «أجمل الشعر أكذبه»..فليس الهدف من الفن الإتيان بشيء جديد، بل التعبير عن فكرة أو تجربة ذاتية..فالفن هو التعبير، والتعبير هو الفن (كروتشي).
ومع عملية الفهم والاستيعاب تأتي حالة الارتياح والنشوة، ذكر القاضي الجرجاني في الوساطة في معرض تقييمه للنص الشعري «تأمَّلْ كيف تجد نفسك عند إنشاده، وتفقَّد ما يتداخلك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرب إذا سمعته». وهذا ما يمكن أن أسميه الذائقة النقدية، ولكنه ليس نقداً، بغض النظر أن غالبية النقد الأدبي والفني العربي الحالي هو نقد تنظيري وليس تطبيقيا يسبر النص ويحلله ويفككه للوصول إلى أحكام نسبية. ينبغي ، إذن ، أن نتفق على ماهية التذوق أو الذائقة، لأنها تأتي في طليعة رد الفعل الأولي والانطباع النقدي.
ذائقة مَن تلك التي تقيم مستوى عمل إبداعي ما؟ هل هي ذائقة العامة من القراء الذين درجوا واعتادوا أنماطا مألوفة من الأساليب والأهداف؟ أم نخبة من القراء الحصيفين الذين امتلكوا ذائقة وقدرة على التمحيص؟ أم النقاد الذين تمترسوا بنظريات وآفاق متنوعة، الذين وصف عملهم «جون لاهر» بأنه: «حياة بلا مجازفة»؟ الإجابة مفتوحة! وهل يكفي التذوق وحده للحكم على النص؟ أم يدعم بالمعايير النقدية الأخرى؟ أيمكن أن تتعارض ذائقة الناقد مع تقييمه للعمل الإبداعي؟ أم انهما متفقتان بالضرورة؟ هل يمكن مثلاً أن تجد عملا إبداعيا لا تستسيغه ذائقتك ولكنك ترى أنه عمل فذُّ وجدير بالاحترام؟
لعل أول من تحاور مع مفهوم الذائقة في التراث العربي هم الصوفيون، في مقولتهم: «إن من ذاق عرف» وزعيمهم ابن عربي الذي عرَّف التذوُّق بأنه «أول مبادئ التجلِّي، وهو حال يفجأ العبد في قلبه؛ فإن أقام نَفَسين فصاعداً كان شرباً. وهل بعد الشرب ريٌّ أم لا؟ فذوقهم في ذلك مختلف» ويعرِّف الناقد يوسف اليوسف الذائقة بأنها «الانفعال (التأثر، الالتقاء) بالوسيم أو باللطيف على نحو ممتع أو منعش. وهذا يعني أنها فاعلية مبدؤها مقاربة المناسِب أو الموائم بطريقة من شأنها أن تحذف كل فرق بين الذات، أي بين الذائقة، وبين المحتوى الذي يُذاق؛ إذ لابدَّ من مضمون تمتلئ به الداخلية، وإلا فلن تكون سوى شبح أو وهم أو خواء مُفرَغ من كل ما يملأ أو يعني». لكن هل يمكن اعتماد الذائقة كمعيار لنجاح العمل الإبداعي؟ يقول اليوسف:«يبدو أنه لا بدَّ من الوساطة بين الذوق والمعيار، أو بين الانطباع والتعليل، أي بين الوجدان والذهن اللذين يتنازعان السلطة على النص الأدبي. التذوق يحتاج حاجة ماسة إلى عملية التعليل النقدي المستند إلى أسس معرفية وفكرية قادرة على إصدار حكم قيمة نقدي، وقادرة على تبيين أهم الأسس الجمالية-الفنية والفكرية العامة في النص». وفي النتيجة النهائية أننا لا نستطيع معرفة القيمة الجمالية لأي نص بدون الاستناد إلى معايير فنية وفكرية عامة - ذات طابع نسبي - تساعدنا في عملية تحليل وسبر الأغوار العميقة للنص (فائز العراقي).. فالذائقة كما يراها اليوسف «طاقة ديناميَّة حية وشديدة القدرة على الاستبصار والاكتشاف. وهذا يعني أنها فعالية معيارية تهدف إلى الالتقاء بالعناصر الجمالية الصانعة للمزية في كل نص أدبي تلامسه...».
تذوُّق الأعمال الفنية والأدبية أو تحليلها، لا يمكن أن يدَّعي التوصل إلى أحكام تغلق الآفاق أمام رحابة العقل والخيال والتأمل والتبصر وتقود إلى أحادية تضيِّق من مساحة الرؤيا وتحول دون إخصاب الذهن وإثراء التجربة الإنسانية. بل أنه لا معايير نهائية في الإبداع الجمالي ككل، فهي ليست قوانين طبيعية. وهذا يوقعنا في معضلة قديمة أزلية هي آلية تذوق الجديد المختلف في العمل الإبداعي من شعر ونثر وقصة ومقالة، ومن ثم مشروعية بقاء هذا النسق الناشئ ناهيك عن رعايته!
|