Monday 3rd february,2003 11085العدد الأثنين 2 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مواقف من حرب العدوان على العراق - 3 - مواقف من حرب العدوان على العراق - 3 -
عبدالله الصالح العثيمين

إن المتأمل في تاريخ العراق، بلاد الرافدين، يجده حافلاً بمجد غابر يمثِّل حضارة عريقة يفتخر بها ويعتز، كما يجده مركزاً لحضارة عربية إسلامية أتت أكلها فوق ربوعه وكان لها دور مجيد على مسرح العطاء الإنساني. لكنه يجد ذلك التاريخ مليئاً بكوارث مأساوية من وقت إلى آخر، بعضها حلَّت به من خارج حدوده، وبعضها من عمل فئاته المحلِّية المختلفة. وللمرء أن يتجاوز فترات تاريخية ليصل إلى القرن العشرين، الذي شهد احتلال بريطانيا لذلك البلد، وسوف يتركَّز الحديث، في هذه الحلقة، على كوارثه الداخلية التي كانت جذوراً لاتخاذ فئاته المواقف التي تتخذها الآن من حرب العدوان عليه.
لقد تولَّى زمام رئاسة الوزراء في العراق - خلال العهد الملكي فيه - رجال متعدِّدون. وكان أبرزهم وأعظمهم دهاء وحنكة سياسية نوري السعيد، الذي كان متحمِّساً في ولائه لبريطانيا والغرب، ومشاركاً مؤثِّراً في تكوين حلف بغداد المشهور، وحينذاك لم تكن الطائفية المذهبية واضحة وضوحها فيما بعد. لكن كانت هناك مشكلتان بارزتان:
الأولى: حركة اليسار التي يتزعمها الشيوعيون، فكراً وتنظيماً، أو توجهاً عاماً دون ارتباط تنظيمي. وكان نوري السعيد بالمرصاد لأولئك الشيوعيين المنظمين بالذات، فلاقوا ما لا قوا من كبت في عهده، ونال منفِّذو ذلك الكبت ما نالوا من عقاب ثأري بعد ما أطيح بالحكم الملكي وسيطر الشيوعيون وأعوانهم على مقاليد الأمور في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم.
المشكلة الثانية: مشكلة الأكراد، الذين كانت لهم طموحات استقلالية واضحة منذ الحرب العالمية الأولى. وفي عهد نوري السعيد كان زعيم حركتهم الانفصالية الملا مصطفى البرزاني، وقد تولَّى وزير داخلية نوري السعيد، سعيد قزاز الكردي الأصل، تحطيم قوة البرزاني، واضطره إلى الفرار واللجوء إلى الاتحاد السوفيتي حيث بقي هناك إلى أن أطيح بالعهد الملكي، وأصبح الشيوعيون وأعوانهم في العراق يسيطرون على مقاليد الأمور بيد من حديد وأنواع من البطش والإرهاب. وكان مما ساعد حكومة نوري السعيد على تحطيم حركة الأكراد الارتباط الوثيق بينها وبين الغرب، وكون جارتي العراق: تركيا وإيران، عضوين معها في حلف بغداد، إضافة إلى وجود أكراد في كلٍ منهما قد يغريهم نجاح تلك الحركة بالقيام بحركة مماثلة.
وبعد أن عاد الملا مصطفى البرزاني إلى العراق من الاتحاد السوفيتي، الداعم الأكبر للشيوعيين في العالم حينذاك، لم يكن غريباً أن يتكوَّن تحالف بين الأكراد والشيوعيين وأعوانهم المسيطرين على الحكم في ذلك البلد المبتلى بنكباتهم، وإن من المؤسف حقاً أن وجد بين أعوان ذلك الحكم أناس وهبهم الله ملكات شعرية كان يؤمل أن تحلَّهم محلَّ الصدارة في قيادة الخير لا أن يكونوا عوناً للظلم والبطش. وكان من هؤلاء محمد صالح بحر العلوم، الذي شهدت محكمة المهداوي، أو المهزلة، صولاته وجولاته في إلقاء شعر يمجِّد الحكم الغاشم في العراق، وكان مما حفظته من إحدى قصائده التي ألقاها في تلك المحكمة، سباً لرئيس دولة الوحدة بين مصر وسوريا المناهض للشيوعيين في تلك الفترة، قوله:


على السرير وزهو الحكم يجعله
ألا يرى كم سريرٍ حوله انقلبا
اصبر على رأس فرعونٍ تجده غداً
بحبل جُلَّق أو بغداد منسجما

وكان مقتل رأس الحكم في العراق والقضاء على أعوانه من الشيوعيين أسرع من فشل الرئيس المصري، ثم وفاته وفاة طبيعية، ومن بين أولئك الشعراء البياتي، الذي توعد خصوم الشيوعيين بقوله: سنجعل من جماجمهم منافض للسجاير. أما الجواهري، الذي سبق أن مدح عبدالإله بقصيدة تبدأ بعبارة: «ته يا ربيع»، وردَّ عليه مهاجماً بحر العلوم بقصيدة تبدأ بعبارة: «صه يا رقيع»، فكان مندفعاً في حثِّه الزعيم الأوحد على الإمساك بخناق المعارضين للطغيان الشيوعي.
وإذا كان موقف أولئك الشعراء مؤسفاً فقد كان مؤسفاً، أيضاً أن ينضم الأكراد إلى ممارسي السحل من الشيوعيين، بل إن ضلال الأكراد الأعمى بلغ بهم حداً جعلهم يتزعمون دفن الناس، وبخاصة التركمان، أحياء في كركوك، وذلك بعد فشل حركة الشواف في الموصل. ومن المعروف أن عبدالكريم قاسم في أواخر عهده حاول التخلُّص من قبضة الشيوعيين، وعيَّن هاشم جواد، الذي كان غير عدائي للغرب، ولقد سمعته في إذاعة بغداد يخطب قائلاً: إن ما حدث في كركوك لم يحدث مثله في دير ياسين، إذ دفن الناس أحياء.
وولّى العهد الذي سيطر فيه الشيوعيون وأعوانهم على مقاليد الأمور في العراق ليحلَّ محلَّه حكم الكلمة الأولى فيه لحزب البعث. لكن البطش الثأري كان السمة لذلك الحكم. بل إن هذا البطش حدث بين المنتمين إلى ذلك الحزب أنفسهم، ناهيك عن البطش بالآخرين غيرهم.
وولَّت السنوات ليجد العراقيون أنفسهم تحت حكم دكتاتور لا يرقب إلاً ولا ذمة فيمن لا يخضع ويتذلَّل له. وعانت منه ومن أعوانه غالبية الشعب بمختلف طوائفه وأصوله ما لم تعانه من قبل. وكان ما ارتكبه من حماقات سياسته الغبية أكبر أسباب وصول الأمة العربية إلى ما وصلت إليه من ذل أمام عدوتها الأولى، دولة الصهاينة، وأعدائها الآخرين المؤيِّدين لهذه الدولة العنصرية المغتصبة لفلسطين المرتكبة أشنع جرائم الحرب في حق الشعب الفلسطيني، إنساناً ومقدَّسات وثقافة واقتصاداً.
ولكل ما سبق أتت مواقف فئات من الشعب العراقي مؤيِّدة لمن يريدون أن يشنوا حرباً عدوانية على بلادهم. ولعلَّ مما يلحظه المتابع تغيُّر مواقف تلك الفئات حسب مصالحها الذاتية بعيداً عن المصلحة الوطنية العامة. فالأكراد الذين كانوا بالأمس حلفاء للشيوعيين أصبحوا حلفاء للغربيين، وفي طليعهم قادة أمريكا.
ذلك أن هدفهم من قبل ومن بعد تحقيق طموحاتهم الفئوية الإقليمية بغض النظر عمن يتعاونون معه في تحقيقها. وبعض زعماء الشيعة، الذين دفعهم ما يوجد بينهم وبين القيادة الإيرانية من تعاطف معروف، واتخذوا من إيران ملجأ لهم، لم يعد لديهم مانع من وضع أيديهم في أيدي أولئك الذين يخطِّطون لضرب العراق. فالهدف لديهم إزاحة الحكم الحالي في العراق، الذي يأتي بين أسباب وقوفهم ضده ما يتراءى لهم وهماً أنه حكم سني غير منصف للشيعة. وبعض المعارضين للحكم العراقي الدكتاتوري من العرب السنة يهدفون بالدرجة الأولى إلى الانتقام من ذلك الحكم وإن كانت عملية الانتقام تحت راية أولئك الأعداء الذين تهمهم مصلحة الكيان الصهيوني، وتمهيد الطريق أمامه ليكون صاحب الكلمة الأولى في المنطقة. على أن من تلك الفئات من تملكته الغيرة الوطنية، فرفض التعاون مع الأعداء على الرغم مما لحقه من ضرر كبير من الحاكم الدكتاتور.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved