كثيراً ما طرحت المقارنات بين التربية والتي كانت تركز على التعليم أكثر من التربية.. وبين التربية الحديثة فالاولى تركز على الناحية المعرفية والملكات العقلية المختلفة للتلميذ كالحفظ والتذكر والفهم بينما تشمل الناحية الثانية أي التربية الحديثة جميع جوانب شخصية التلميذ لتتولاها بالرعاية ومتابعة نموها.. ولعل احدى هذه المقارنات طرحت في برنامج لقاء الاجيال في محطة تلفزيون البحرين والذي كان يعده ويقدمه الاستاذ الفاضل د.خالد بوقحوص عميد كلية التربية.
والصراعات ما زالت قائمة بين مؤيدي ومعارضي التربية قديماً ومؤيدي ومعارضي التربية الحديثة.. ولكل من هاتين الطريقتين مزاياها ومعايبها.
تلح عليَّ الذاكرة بسرد بعض تفاصيل التربية أيام زمان حين كان للأسرة دورها الكبير في التربية والتعليم رغم ما تلقته معظم الأسر قديماً من ثقافة قليلة بل ان بعضها كانت تخيم عليها الأمية ويحوطها الجهل ومع ذلك أبلت بلاء حسناً في التربية والتوجيه.
كانت والدتي شأنها شأن اترابها تجهل القراءة والكتابة ما عدا قراءة القرآن الكريم التي تلقتها في الكتاتيب وكانت الحياة بسيطة خالية من التعقيد ووسائل الترفيه نادرة للغاية.. فهي لا تتعدى جهاز التلفاز الذي تسيطر عليه محطة بث واحدة اضافة إلى ذلك زيارات الأصدقاء والأقارب والجيران.. وكان اللعب في الشارع أمراً مباحاً لنا كأطفال ولكن تحت شروط مفروضة علينا.. منها عدم الابتعاد عن الحارة وعدم الوصول إلى الشارع الرئيسي الذي تمر فيه السيارات وعدم دخول البيوت الغريبة وعدم اللعب مع الأولاد وعدم الخروج في وقت الظهيرة والمساء نظراً لخلو الأزقة من المارة وتحسباً لأمور قد تحدث في تلك الأوقات.. وكان لنا السمع والطاعة.
المدرسة كانت تعلمنا الكثير الكثير بما يحشو الذهن من معلومات حفظناها عن ظهر قلب.. فمنها المفيد ومنها ما هو لمجرد الحفظ ولا يصلح للاستفادة منه في الحياة العملية والفكرية. وعلى سبيل المثال كانت تطلب المعلمة من الجميع وكنا آنذاك في المرحلة الابتدائية.. ان نحفظ ونتذكر بعض المصطلحات في اللغة البابلية والآشورية فالملك العظيم كان يعني في تلك اللغات (لوكال زاكيزي) ودولتي الخروف الأبيض والخروف الأسود في تركيا يطلق عليها (قره فوينلو وآق قوينلو) وهكذا..
ومن لا تحفظ مثل هذه المصطلحات.. تنزل عليها أشد العقوبات ويكتب على لوحة من الورق المقوى كلمة (البنت الكسلانه) تثبت على قميصها من الخلف ويطلب منها الوقوف لفترة طويلة في ساحة المدرسة ليتفرج عليها الجميع.. ومع هذه المعاناة من تلك المعاملات اللا انسانية وتكليفنا بواجبات وعقوبات كتابية فوق طاقاتنا.. تعلمنا الكثير من المعارف واكتسبنا مهارات القراءة والكتابة والتعبير والتلخيص ومعاني الكلمات والقصص المليئة بالعبر والمواعظ والمروءات والقيم.. والفضل يعود لله سبحانه ثم لأؤلئك الذين علمونا رغم انهم علمونا الجانب النظري اكثر من التطبيقي..
أما الأهالي.. فقد كان لهم النصيب الكبير في التعليم من مواقف الحياة الكثيرة.. لم تكن البيوت مزودة بمكيفات للتبريد آنذاك ما عدا المراوح الكهربائية.. وكان الناس ينامون فوق السطوح وعلى الهواء الطلق.. فتجد ربات البيوت ينظفن سطوح منازلهن في وقت الغروب ويمددن الفراش.. وتملأ كل واحدة زير الماء المصنوع من الفخار والمخصص للشرب ليلاً.. كنا نتجمع حول والدتنا التي اضناها تعب اليوم من تنظيف وطبخ وغسيل وخبز بالتنور اضافة إلى زيارات الجيران والاقارب كجزء من مسؤوليتها كأية ربة بيت آنذاك.. كنا نتجمع حولها ليلاً لنسمع منها القصص والحكايات المليئة بالعبر وحسن التدبير والموعظة.. وكثيراً ما كانت تحكي لنا عن قصص الأنبياء والصالحين.. فتوسع مداركنا وتحفز تفكيرنا لنمطرها بوابل من الأسئلة والاستفسارات..
*.. كنا نلاحظ بعض الطيور في وقت الغروب لها ألوان متناسقة.. ظهرها أسود وبطنها أبيض ولها أصوات جميلة.. فنسألها ما اسم هذا النوع لتجيب.. انه طائر السنونو يطلق عليه باللهجة العامية (السند وهند) أتدرون ماذا يقول وهو يطلق هذه الأصوات الجميلة؟ فنجيب بشكل جماعي.. لا لتقول.. انه يذكر الله.. فالطير يسبح بحمده.. والسنونو بالذات.. يقرأ الآية {إذً يّتّلّقَّى المٍتّلّقٌَيّانٌ عّنٌ اليّمٌينٌ وّعّنٌ الشٌَمّالٌ قّعٌيدِ} *ق: 17*.. لا أعلم من أين أتت لنا بهذه المعلومة.. لكنها علمتنا ان نحفظ بعض الآيات القرآنية بشكل أو بآخر.. فكنا ننام ونحن في غاية المتعة والسعادة بعد تلقينا الكثير من المعلومات والقصص.. وكثيراً ما أصحو على صوتها الهادئ وهي ترتل القرآن بخشوع بعد صلاة الفجر.. لدرجة انني حفظت الكثير من كثرة تكرارها وقراءتها اليومية باعتبار ان ذلك جزءاً من برنامجها اليومي.. اذاً الأم مدرسة واية مدرسة تلك الانسانة التي علمتنا القيم والمقبول من السلوكيات كحب الناس والايثار..
هكذا كانت التربية قديماً.. كنا نتعلم من المواقف الحياتية الكثير ونمنح الفرصة للتعلم من كل ما تعمله الوالدة من تجفيف الخضار في مواسم معينة وعمل المخللات والمربيات.. والخبز وكانت تدربنا على أن نخبز معها باستخدام التنور وبحذر.. فتخرجنا من مدرستها البيتية برصيد هائل من المعلومات والخبرات والمواقف.. ولعل من الأمور المحببة هي تبادل الاطباق من الاطعمة بين الجيران لا سيما اذا كانت الاطعمة غريبة أو مرغوبة أو متعبة ناهيك عن تبادل الاطعمة في شهر رمضان الكريم وبشكل يومي.. كان الجار يخاف على حرمة جيرانه ويمنع أي غريب عن الحارة فيما اذا كثر تردده.. وكثيراً ما كانت الأمهات تودع صغارهن عند احدى جاراتهن حتى وان كان الصغير رضيعاً لدرجة ان الجارة تقوم بارضاعه في حالة تأخر امه في العودة.. كان نادراً ان يتزوج ابن الجيران ابنة جيرانه لأن ذلك يعني انه نظر اليها بشكل مخالف للعرف فهو يعتبرها بمثابة اخته.
هكذا كانت التربية القديمة تلفها البساطة والاعتماد على الذات وصلة الرحم والجوار..
وها هي التربية الحديثة بميزاتها الكثيرة كنبذ العقاب البدني والاهتمام بصقل مهارات الافراد وتولي شخصية التلميذ بكل جوانبها بالعناية والاعتبار لاعداد المواطن الصالح متكامل الشخصية.. وهذه التقنية الحديثة التي غزت مدارسنا لتساعد في توسيع مدارك التلاميذ وتسهل الكثير من العمليات الادارية كتخزين المعلومات وتحويل الملفات الضخمة إلى شرائح صغيرة وتقدم الخدمات الكثيرة كالجدولة والبرمجة والوسائل وطرق التدريس الحديثة وما إلى ذلك.. فنجد طفل الروضة على سبيل المثال يتحدث بطلاقة ويتمتع بمهارات كثيرة ويسأل ويناقش ويستكشف.. ولكن هل يجد الفرصة لأن يتأمل السماء في الليل؟ ويربط بعض الاشياء التي يراها كالغيوم والنجوم بما يمليه عليه خياله؟ هل يدري حق الجوار؟ وهل يختلط بأطفال الجيران ليصقل مهاراته الاجتماعية واللغوية اضافة إلي ادراك محبة الجيران وضرورة التواصل معهم كواجب ديني واجتماعي؟
إن التربية الحديثة بمزاياها الكثيرة حرمت أطفالنا من أشياء كثيرة ولا سيما ان التقنية الحديثة سيطرت على كل مناشط الحياة فصار الشخص سواء طفلاً أو راشداً متلقياً فقط.. وان كان مرسلاً فهو يستخدم الاتصال غير اللفظي كالكتابة عن طريق البريد الالكتروني والقراءة..
اما الاتصال اللفظي فليس له ذلك النصيب الكبير.. فقد اصبح الانسان يعاني من الاتصال الاحادي.. اي يسمع ويقرأ ولا يجد من يسمعه... يسمع هموم العالم والاخبار المؤثرة من مآسٍ وكوارث طبيعية وغير طبيعية ولكن لا يجد من يسمعه.. الكل مشغول.. والكل يتسابق مع الزمن..
لقد ضعفت صلة الجوار وصلة الرحم.. ودخلت العمالة الاجنبية إلى البيوت معظم البيوت فالسائق حل محل الأب في نقل الابناء من مكان إلى آخر.. والخادمة حلت محل الأم فهي التي تعرف ماذا يريد الابناء وأين اشياؤهم ومتى يستيقظون ومتى يأكلون ومتى.. ومتى... الأم مشغولة ومنهمكة والأب دائم الانشغال.. فلا مجال للتوجيه والالتصاق بالأبناء وملاحظة نموهم واحتياجاتهم.. لم تعد الأم مسؤولة عن التنظيف والطهي والغسيل.. ومع ذلك ليس لديها الوقت لزيارة الجيران والسؤال الدائم عنهم.. وربما لا تعرف جيرانها.. لقد سلبتنا التقنية الحديثة من ابنائنا وشغلت ابناءنا عنا.. واجتاحت الفضائيات بيوتنا فصرنا نلاحظ فلذات اكبادنا وهم يقلبون محطات التلفاز من واحدة إلى اخرى بحثاً عن الأمتع.. هذه التقنية التي هي سلاح ذو حدين تجعلنا نناشد المسؤولين في حقل التربية لوضع برنامج متقن يحمي ابناءنا من خطر هذه الأجهزة الحديثة التي قد تزودهم بأفكار دخيلة وعادات منبوذة وسلوكيات هي أبعد ما تكون عن مجتمعنا الكريم.. الأمل كبير بأن تخدم التربية الحديثة مجتمعنا متمثلاً بالتلاميذ في كافة المراحل ليأخذوا ما يناسب وما يفيد وينبذوا ما هو صعب الهضم والقبول.. مع التركيز على القيم السامية التي هي اساس سعادة المجتمع..
أسأل الله التوفيق للجميع.. وكل عام ومجتمعنا المسلم الآمن بخير وعافية.
|