8- بعض صيغ العمل الإسلامي اليوم تتعلق بإلحاق نسبي يصبح في كثير من الأحوال هو قوامها الحركي والثقافي، وربما ساعد على هذا التأكيد ما يحمله هذا المفهوم من قيمة مبدئية، أو قدرة على تجاوز المرحلة عند نجاحه، وخذ مثلاً: «المفهوم السياسي» إنه مفهوم نسبي؛ لأن الإسلام ليس لغة أو رؤية أو نظرية سياسية فحسب، ومن هنا كان مفهوماً نسبياً، وهذا لا يعني أنه لا يحمل قيمة مبدئية خاصة.
إن المفهوم السياسي أساس في الإسلام، بل أكثر المعارك ضراوة في العصر الحديث هي معركة الإسلام والعلمانية، وأيضاً فإن المشكلة السياسية اليوم على مستوى الأمة مشكلة عميقة ومتداخلة مع غيرها، لكن مع هذا القدر من الصدقية؛ فإن من الصعب أن نتحول إلى إلحاح خاص على هذه المسألة ونحن نقدم الإسلام.
فرق أيها الأخوة أن نتكلم من واقع كوننا سياسيين فحسب، أو أن نتكلم من واقع كوننا إسلاميين، والسياسة جزء من الإسلام.
وهذا المثل «المفهوم السياسي» يقال في غيره أياً كان هذا الغير. لماذا؟
لأن الإسلام ليس رؤية نسبية، ولأن مشكلة الأمة اليوم لا تتسم بالنسبية، ولئن كان أهل الكتاب نسوا حظاً مما ذكروا به؛ فإن هذا في الغالب هو الوجه الآخر للإلحاح على بعض جوانب الشريعة ومنحها فوق حقها.
9- إذا نظرنا في واقعنا الإسلامي وصيغ العمل الإسلامي وجدنا قدراً كبيراً من الاختلاف والتمايز، وإني أجد أن من غير المهم أن نشتغل كثيراً في التنظير لتوحيد العمل الإسلامي في هذه المرحلة، لماذا؟
لأننا لا نملك آلية التوحيد، وأيضاً فإن هذا الواقع من غير المهم أن نسعى لتوحيده، فربما كان توحيد العمل يمثل إلغاء عند كثيرين، وهذا يعني توليد الصراع من أجل توحيد العمل.
يفترض أن نكون واقعيين، ونعرف قدر امكانيات العمل التي نمتلكها، لكن ربما كان من الخير أن نعي أنفسنا كثيراً، وندرك أن هذا الاختلاف يمكن أن يتحول إلى تعددية إسلامية حميدة تستوعب الواقع كله.
إن المجتمعات بل والأفراد تختلف عقولهم ونفوسهم والمؤثرات التي يقعون تحتها، وهذا يجعل التعددية مطلباً ملحاً مع المحافظة على أصول الدين وثوابت الشريعة وجعلها مرتكز الاجتماع.
والعمل الإسلامي اليوم رغم اختلافه وتمايزه في كثير من الأحوال؛ إلا أنه يملك تجمعاً مؤهلاً للصياغة الشمولية إذا استطعنا الاعتراف والإيمان بثلاث حقائق:
أولاً: تجاوز خلافاتنا الخاصة، والتخلي عن المطالبة الذاتية.
ثانياً: عقد وفاق ولائي على مستوى المشاعر، والثقافة العمومية للإسلاميين، وذلك بإقرار حق الاجتهاد الشرعي بحدوده، فالاجتهاد من أهم الثوابت وهو روح المتغيرات، وأساس الاختلافات.
ثالثاً: القدرة على الإيمان بالترقي، والتجديد في الصياغة، والتطبيق الذي نمثله، والتخلص من الرؤية السرمدية لمشاريعنا الخاصة.
أيها الأخوة حين ندرك مقدراتنا التي نملكها ندرك أننا أقوياء فعلاً، وإننا نؤثر في المجتمعات كلها، ومن أخص مقدراتنا تحويل الواقع الخلافي إلى تعددية رشيدة قابلة للحوار والتصحيح مع الاحتفاظ بحق الاجتهاد الشرعي، والمحافظة على الثوابت والأصول.
من غير المنطقي عقلاً وشرعاً أن تتحول اجتهاداتنا الخاصة إلى قرارات ملزمة لغيرنا من إخواننا، ومن غير العقلي والشرعي ألا نؤمن إلا برؤيتنا الخاصة، ومشاريعنا الاجتهادية، إننا هنا نقع في غلط شرعي ونحن نمثل العمل الإسلامي.
يجب أن تكون الأصول الشرعية واضحة، وثوابت الإسلام متاحة لكل فرد في المسلمين وما عدا ذلك فهو صياغة خاصة تجريبية، قابلة للمعارضة والتجاوز والتطوير والمخالفة وفق ضوابط الاجتهاد الشرعي المحكم، مع أني أفضل كثيراً أن نتجاوز لغة المعارضة في داخلنا، وأن نربي الجيل القادم على التعددية والحوار ضمن القواعد الشرعية المنضبطة.
إن المدارس الفقهية الأربع في التاريخ الإسلامي «الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية» كانت استجابة للواقع الإسلامي اللاحق لعصر الأئمة، وقدمت رؤية علمية في الفقه الإسلامي، لولا بعض حركة التعصب التي تطرأ أحياناً في صفوف الأتباع، وهكذا الأمة اليوم، إنها تطالبنا بتنويع الطرح والمشاركة الجادة في كل المجالات لنصنع أمة متكاملة الرؤية والتأثير، ولنحقق قدراً من القواسم المشتركة بين فئاتها يصح معها أننا أمة واحدة.
إن التفاوت والاختلاف مهما تعاظم في نفوسنا لا يعد شيئاً ذا بال إذا قورن بمساحة الاتفاق العريضة المستندة إلى محكمات هذه الشريعة وأصولها.
10 هذه الرؤية لا تعني أن نقع في الخلط الشرعي أو ألا نميز الحق من الباطل، إن التمييز بين الحق والباطل أصل في الإسلام، بل هو من حقائقه الشرعية والقدرية، لكن يجب أن نقدر أن الباطل هو ما يخالف الإسلام نفسه وليس ما يخالفنا نحن، ومن هنا يفترض ألا نركب لغة الصراع بين الحق والباطل إلا ونحن متحققون من واقع الحال، إن ثمة أصولاً شرعية كثيرة أحياناً يساء استخدامها حتى لدى بعض الخيرين.
11- يفترض بعض إخواننا أن من الصواب الإسلامي أن يقدم رؤية تطبيقية اجتهادية خاصة به تحظى بروح سرمدية البقاء، وهذا في تقديري ليس مهماً، ولا يمثل إمكانية التطبيق العملي، بل يبقى ظلاً له رسمه، وليس له أثره.
يفترض ألا نصر على تقديم مشاريع طويلة الأمد من المشاريع ذات البعد التغييري الشمولي، وحين نمضي جهداً وعمراً في رسم مشروع يحظى بروح طويلة للبقاء، فنحن هنا نخسر الواقع أكثر مما نتصور، ولهذا لا ترى لكثير منا أثراً في الواقع الحضاري للأمة، بل هذا موقع يتسم بجفاف التأثير الإسلامي اليوم.
وتسارع التغيرات العالمية يعني أننا نعيش لغة المرحلية في المشاريع الاجتهادية، نظراً لتعدد مقومات تحريك المجتمع الإسلامي والتأثير عليه، ونحن يجب أن نتعامل مع هذه المحركات المؤثرة على مجتمعاتنا بواقعية يلمسها الناس ويدركون تناسبنا مع الواقع، بل ومع متطلباتهم انطلاقاً من تأصيل الشريعة.
إن هذا العصر الذي نعيشه يمتاز بسرعة في الآلية الإنسانية انعكس على سرعة الذهنية الإنسانية نفسها، ومن هنا أصبح الإنسان أكثر استعداداً للتطور، وصار لديه قابلية كبيرة للتجديد، هذه القابلية تفرض علينا أن نقدم مشاريع تحمل روحاً تطويرية، ولغة تجديدية في الرؤية الثقافية والفكرية والأشكال الحضارية كلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية سواء على مستوى القرار، أو على مستوى التعامل.
لكن يفترض ألا يكون التجديد ثورة على المجتمع من داخله.
ويجب أن نسعى في تحقيق الأصالة الثقافية مع الواقعية التأثيرية، وكما أنه من غير المنطقي أن ننقطع عن تراثنا وتاريخنا فإن من غير المنطقي أن ننقل الصور التاريخية كما هي ليعرفها من لم يكن يعرفها، التاريخ يعطينا الفكرة ويدع لنا رسم إطارها، والتاريخية المطلقة شكلت عقبة في تطور فكر الأمم، ونحن أهل الإسلام - وإن كنا نمتلك تاريخية أصيلة إلا أننا يجب أن نكون معتدلين، وأن ندرك أن الإسلام المنزل من عند الله ليس هو التاريخ الإسلامي بكل إشكالياته، وتطوراته الثقافية والسياسية والاجتماعية.
يجب أن يستعمل الإسلاميون ورقة جادة في هذه المواقع الاتصالية وهذه الحركة الإعلامية المتطورة، وهذه اللغة الثقافية القائمة للتخاطب مع العالم كله، أو على أقل تقدير للتخاطب مع شعوبنا المسلمة، وإخواننا المسلمين في العالم كله.
يجب أن نؤمن بالتواصل الثقافي بين الإسلاميين، وتطبيع لغة الحوار، والاستعداد للتصحيح حسب قواعد الإسلام ونصوصه، وأن نخرج في هذه الآلية العالمية ونحن نقدم شكلاً صادقاً عن ديننا وإسلامناً حتى على مستوى المظهر العادي، فضلاً عما وراءه.
12- يفترض أن نكون سباقين أمام مجتمعاتنا وأمتنا، وأن نمارس التحدي الحضاري في كل أشكاله، فمن الصعب أن ترى بعض الدعاة الإسلاميين لا يعرف مظاهر التحدي الحضاري إلا بعد تطبيعها في مجتمعه.
13- من أخص الإشكاليات القائمة غياب الوعي داخل الأمة، ليس على مستوى العامة بل على مستوى كثير من أصحاب المواقع والمخاطبة.
إن هذه الأمة بحمد الله تحمل قيمة مبدئية لا يمكن لأي تغيير بشري أن يغيِّبها، حتى يأذن الله بخراب هذا العالم، لكن مع هذا ندرك كثيراً أن المشاريع العالمية التي صنعها أعداء الأمة في شتى المجالات في غفلة الأمة وسباتها زادت من تغييب الوعي بحقائق الإسلام وشموليته.
ومن صور الوعي الغائبة «عالمية الإسلام» فهذه الحقيقة ليست حاضرة في أذهان كثيرين حينما تضع رصداً أو قراءة للمناهج الإسلامية المعاصرة تدرك هنا الاختصار لهذه العالمية.
يفترض أن يكون الإسلام كما هو من عند الله، وألا يتحول إلى ممارسات تقفز على الحقائق الشرعية والواقعية.
أيها الإخوة هنا قضية مهمة وهي أن من الصعب أن ندرك حضور الهيمنة الشخصية في عدد من المشاريع الإسلامية، وأن كثيرين يتدخلون بشكل شخصي من وحي وأثر طباعهم الخاصة لصياغة الرؤية المنهجية لمشروع إسلامي ما.
من الحرج الكبير أن تكون طبيعتنا النفسية والتعاملية والظروف الخاصة بنا هي الحاكم على رؤيتنا في قضايانا الخاصة والعامة.
قد ترى رؤية ما فتدرك بشكل و اضح أنها إنتاج لطبيعة خاصة أكثر من كونها إنتاجاً علمياً ذا طابع معتدل، ومن الصدق أن نحاول الاعتراف بتجاوزنا في الصياغة لمشاريع العمل الإسلامي في بعض الأحيان.
14- لعل من الصواب أن ندرك أن التكوين النفسي الخاص يمارس هيمنة داخل قراراتنا العامة والخاصة.
صحيح أن الإسلام ليس أحكاماً مجردة، وطبيعة الاجتهاد يقتضي استصحاب الحال، والطبيعة الخلقية للمجتهد والناظر، وقد اختلف الخيّران «أبو بكر وعمر» في شأن أسرى بدر، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله يقوي قلوب رجال فيه، ويلين قلوب آخرين فيه، وهذا متصل بصفة فطرية لكل منهما، فأبو بكر كان مألفاً محبباً في قومه، وعمر كان أيّداً شديداً؛ ولذا سمي هذا بالصديق وهذا بالفاروق.
ولعل من غير الممكن الانفكاك عنه، بل وليس من الشرعي أن نقصد هذا القصد، لكن مع هذا تبقى ضرورة الاحتفاظ بعلاقة متناسبة بين الحقيقة الشرعية وبين الأثر النفسي الخاص.
من غير المنطقي أن تكون رؤيتنا تتمتع بذوقية خاصة متأثرة بشكل رئيس بالطبيعة التي نتمتع بها، ونحن ندرك أن كثيرين يحكمون بالذوق النفسي والعقلي المنتج للعلاقة مع الواقع، ولذا فإن تباين المواقع في كثير من الأحوال ليس نتيجة اجتهاد شرعي، بل هو نتيجة ذوقية غائبة عن الإدراك.
15- حين نحاول الوصول إلى قناعة عمومية بأهمية الوعي داخل صفوف الأمة كلها، ينبغي أن نكون واقعيين، وأن ندرك أن غياب الوعي ظاهرة لا تتعلق بالعامة والجماهير، بل هي ظاهرة داخل صفوف النخبة في التقدير الاجتماعي القائم.
والجلوس في المقاعد الأمامية «الرموز، الدعاة، المربّون،...» لا يمثل بشكل ضروري حصانة خاصة بتدني مستوى الوعي والإدراك.
ولعل المركزيات لدى كثير من الإسلاميين متأثرة بالواقع الاجتماعي القائم في الرسم القيادي، فكثيرون يكتشفون أنفسهم في مواقع التأثير، وهم لا يملكون الأهلية الخاصة بهذه المواقع التي يفاجئون بها.
ولهذا تولد التسابق على السلطة الدينية، وهي حق تبعية المجتمع وهذه إشكالية تربوية حادة التأثير على المجتمع.
16- هناك إقبالية ظاهرة متزايدة لدى الإسلاميين، بل لدى الأمة كلها في رفض التعصب الفقهي والتقليد، ومحاولة إيجاد علاقة شمولية على مستوى الخاصة والعامة مع الدليل، وهذا تطلع حسن وجميل، لكن من حيث الحقيقة فإن هذه المحاولة مختصرة في تجاوز صورة أو صور معدودة للتقليد والتعصب، كتجاوز التقليد والتعصب لمذهب فقهي من المذاهب الأربعة، أو بعض الأشكال المعاصرة، لكن تجد على مستوى الخاصة والعامة ممارسات للتقليد والتعصب ربما رسم كثير منها باسم الدليل والاجتهاد، واتباع الحق وأمثال ذلك، والألفاظ غير المعاني.
وكثيرون ينتقلون من التعصب الفقهي لمذهب حنفي أو حنبلي أو شافعي إلى التعصب لفقيه أو منهج معاصر، أو ينتقل من التعصب الفقهي إلى الذوبان في منهجيات دعوية تقوم على الاجتهاد.
ربما كان هذا واقع الجمهور والأتباع، لكن يجب أن ندرك أن هناك تناسباً بين طرح الخاصة سواء في المجال الفقهي أو الدعوي أو التربوي وبين الأتباع، قد ينظر كثيرون إلى علاقة عفوية في هذا الواقع، لكني على يقين أنها علاقة تأثيرية جادة، وإن لم تتم بصورة قصدية هادفة.
حين نتكلم عن التعصب والتقليد فإننا كثيراً ما ننظر بشكل تلقائي إلى الأمام لنتعرف على الطرف المقلَّد الذي نتواصل معه، لكن ربما يحسن أن ندرك أن التعصب والتقليد ليس بالضرورة ثنائي القوام، وكثيرون من الدعاة وطلاب العلم وأشكال المتخصصين يتعصبون لنفوسهم وهم لا يشعرون.
أحياناً يكون الإلحاح في تقديم الاجتهاد - في أي مجال أو تخصص ممارسة غير و اعية لتكريس التعصب، بل وتطبيقه بشكل صارم، والشأن القضاء على التعصب والتقليد المذموم، وليس في الانتقال من صورة إلى صورة أخرى مماثلة لها أو دونها!
يذكر الإمام ابن تيمية عن هذه الآية أن من خصائص الأنبياء وأتباعهم أولي العلم الجمع بين العلم والرحمة؛ لأن الناس لا يُدَيَّنون بواحد منهما فقط، ولهذا جاء قوله تعالى:{وّلّوً كٍنتّ فّظَْا غّلٌيظّ القّلًبٌ لانفّضٍَوا مٌنً حّوًلٌكّ فّاعًفٍ عّنًهٍمً وّاسًتّغًفٌرً لّهٍمً وّشّاوٌرًهٍمً فٌي الأّمًرٌ} *آل عمران: 159* .
نعم! على المصلحين أن يعرفوا العلاقة مع العامة، وأن يدركوا أنهم ليسوا سادة على السواد من الأمة، وليسوا أوصياء على الناس، بل هم دعاة، ومن حق الأمة أن تشاركهم الرأي والتأثير والدعوة.
علينا تجاوز عقدة مركزية الدعوة والرأي والمشورة، وتفعيل التجمع الإسلامي كله، وفتح العلاقات والحوار، والتربية عليه داخل الدوائر الإسلامية، وتجاوز عقدة الزعامة والوصاية، وتطبيع الحوار بين الخاصة والعامة، وتأمين حركة الدعوة وحرية الكلمة والمشاركة والنقد التي تقع داخل حدود الشريعة ومقاصدها.
|