البعد بين القاهرة وتل أبيب جغرافياً ليس بعيداً بحيث يصعب تجاوزه، فالطائرة لا تحتاج سوى ساعة وبضع دقائق لتقطع المسافة، إلاّ أنَّ المسافة بين السلوك والنظرة السياسية وحتى توجهات المجتمع المصري ومن يحلّ بين ظهرانيه من ممثلي الفصائل الفلسطينية والمجتمع الإسرائيلي، بعيدة بُعد المحيطات والصحاري، ولقد كشفت أحداث الأسبوع الماضي هذه الحقيقة، فقد أظهرت الانتخابات البرلمانية التي جرت في الكيان الإسرائيلي أنَّ المجتمع الإسرائيلي، أصبح مجتمعاً حربياً عنصرياً يبحث عن الأمن على حساب آلام ومآسي مجتمع آخر، ولقد ترجمت نتائج الانتخابات هذه الحقيقة التي لا يستطيع أحد دحضها، فقرابة ثلثي الإسرائيلين اختاروا آرييل شارون وقائمة تكتل الليكود وقوائم الأحزاب المتطرفة من الدينيين المتشددين والشوفينيين «الوطنيين» الأكثر تشدداً، في حين لم تحصل أحزاب اليسار والوسط إلا على أقل من الربع. وإذا ما أضيفت المقاعد التسعة التي حصلت عليها الأحزاب العربية، فإنه بالكاد تكون جماعات الوسط واليسار وأنصار السلام قد حصلت على الثلث المتبقي. وبحسبة بسيطة بعد خصم الناخبين العرب تكون النتيجة أنّ أقل من ربع المجتمع الإسرائيلي مؤيد لإيجاد تسوية تحقق لإسرائيل ما تريده من أمن وسلام، مقابل إعطاء بعض ما يستحقه الفلسطينيون من حقوق شرعية بوصفهم أصحاب الأرض.
هذه النتيجة المترجمة بحق لتوجهات وتركيبات المجتمع الإسرائيلي تجسِّد الحقيقة التي يتغابى عنها السياسيون العرب والذين يسعون إلى إعادة التفاوض مع ممثلي هذا المجتمع الحربي والعنصري، الذي يريد أن يحصل على كل شيء دون أن يعطي شيئاً يستحق لشعب استُلبت أرضه وشُرِّد شعبه وفُتِّتت قضيته. ولهذا فإنّ نتيجة الانتخابات توضح بلا لبس أنّ مثل هذا المجتمع، بغضِّ النظر عن قيادته السياسية، غير مؤهل سلوكياً ولا فكرياً للتعايش سلمياً مع الشعب الذي سُلب أرضه، إذ يرون أنّ بقاء «دولة إسرائيل» مرتبط بإلغاء الشعب الآخر. وشارون وجماعته يجسِّدون هذه الحقيقة التي يجب على العرب والفلسطينيين معاً أن يعوها، ويتوقفوا عن أحلام السلام التي سُلبت من الفلسطينيين والعرب أكثر من عقدين من تاريخهم، وهم يلهثون وراء سلام لن يتحقق في ظل جري ولهاث عربي وراء المفاوضات، ورفضٍ وتخريب للتفاوض ونقضٍ للاتفاقيات من الإسرائيليين.
إنّ أي متابع وأصغر طفل فلسطيني وعربي، يعرف أنّ الإسرائيليين لا يحضرون إلى أي مفاوضات ولا يجلسون إلى طاولات الحوار، إلا إذا وجدوا أنّ الأخطار تحيط بهم، حيث ينجحون في تحقيق ما يعجزون عنه في ساحات المواجهة. وإذا كان الإسرائيليون قد قبلوا التفاوض «سراً» في أوسلو مع الفلسطينيين والوصول معهم إلى اتفاقيات لم يبق منها سوى اسمها فذلك لأنَّهم وجدوا أنّ الاتجاهات التي كانت تسيِّر مؤتمر مدريد للسلام تسعى إلى إقامة دولة فلسطينية. وبتشجيع من الأمريكيين والأوربيين معاً استدرجوا الفلسطينيين للمفاوضات السرية في أوسلو، حيث دخلت القضية الفلسطينية في مسارات متشعِّبة أولى خسائرها الاستفراد الإسرائيلي بالفلسطينيين، وتشتيث الموقف العربي، الذي لا يزال يواصل إفرازاته السلبية على النضال الفلسطيني.
هذه النتيجة انعكست بوضوح فيما جرى في إسرائيل ترجمته نتائج الانتخابات، وما تجسَّد في القاهرة من خلال مباحثات الفصائل الفلسطينية.
وغداً نواصل..
|