Saturday 1st february,2003 11083العدد السبت 29 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الإنسان يأكل الإنسان! الإنسان يأكل الإنسان!
عبدالعزيز السماري

أكدت الأحداث في مسيرة التاريخ، ان الحل الراديكالي والمتمثل في خروج ما أطلق عليه بالحركة الشيوعية العالمية، وبروز معسكر الكتلة الشرقية في مواجهة الغرب الإقطاعي، لم يكن على الاطلاق الاستجابة الفطرية السليمة ضد توحش «الذئاب»، وهو مصطلح جاء من مقولة فلسفية تصف نوعية العلاقة مع الآخر في المجتمع الرأسمالي «الإنسان ذئب بالنسبة للإنسان»، ولم يكن ذلك الحل رد الفعل المناسب على مأساة «الخراف أكلت الإنسان»، في رواية توماس مور، التي كتبها من وحي طرد التجار الإنجليز للفلاحين من أراضيهم في القرن السادس عشر، ثم تحويلها إلى مزارع مغلقة لتربية الخراف، التي كان نسيج صوفها يمثل 70% من الصادرات الإنجليزية، لتتصاعد نسب البطالة، ويصبح في لندن وحدها أكثر من 70 ألف شحاذ يجوبون الطرقات، وتتولد حالة من التمرد ضد نتائج الحرية المطلقة للتجار في المجتمع الأوروبي.. وتستمر قرون، وتتعدد وجوه صراعاتها، ليخرج احفاد الذئاب في نهاية الجولات، وبعد سقوط الجدار منتصرين في معارك فلسفة الفعل الاقتصادية، وأكثر تحرراً في حركة رؤوس الأموال عبر الحدود الوطنية للدول، لكن في الوقت نفسه مدركون تماما، أهمية استئناس البشر، وضرورة منحهم حدوداً دنيا من كفاف العيش حتى لا يعود التوحش من جديد في مجتمعاتهم «الغربية».. إن حدث.. و«أكلت الآلة الإنسان» في المستقبل..
ولم يكن سقوط جدار برلين مجرد إعلان عن سقوط معسكر اقتصادي سياسي، لكنه كان أيضاً دليلاً حاسما على تداعي مطلق مقولة: ان «السلعة التجارية وثن يعبد» فلم تجلب تبعات التطرف الحركي لفلسفة ردة الفعل الإنسانية على اقطاع السلعة، إلا مزيداً من تسلط واستبداد إقطاع الدولة في معسكرها الشرقي، الذي كانت نتائجه سحقاً مخيفاً لذات الإنسان، وتدميراً لإرادته، ومنهج حياة مجرداً من الروح والفضيلة، وخالياً من سبل الإصلاح الفطرية.. والسلعة في حد ذاتها، كائن يحمل في مضمونه النفع والضرر، والخير والشر، فقد يكون مثلا نغمات جوال، أو آليات مفاعل نووي، أو «عمالة وافدة أو وطنية»، أو حتى «مفهوم اقتصادي».. والمعضلة هنا، ليست في ابتكارها أو خلق نسخ جديدة منها، ولكن في تحريرها من القيود الوطنية ومن الامتثال للمقاصد الشرعية، وأيضاً في شموليتها واستخداماتها في غير موضعها، والقول المشهور «كل شيء له ثمن»، يفتح الباب واسعا أمام رغبة تحويل الأشياء و«القيم» والناس إلى سلع قابلة للتداول في أسواق الحياة..
وما يحدث الآن سياسيا بين الولايات المتحدة وبقية العالم، حلقة ربما أخيرة في مسلسل حلقات التضليل تحت شعار الايديولوجيا السياسية، وبداية تأسيس محور جديد، قطباه سلطة المنتدى الاقتصادي العالمي في «دافوس» ومقاومة المنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو اليغري، ففي دافوس، يحتفل ممثلو الشركات العالمية سنويا بانتصارهم على التطرف الردايكالي في العالم، ويستمعون خلاله إلى تطمينات «السياسي من الجنوب» وعن استعداده لتهميش حساسية الحدود ضد نقل السلع والموارد الخام وحركة رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية.. وفي بورتواليغري تجتمع القوى الاجتماعية العالمية والمؤسسات غير الحكومية ضد سيطرة الشمال الاقتصادية، وتزايد القواعد العسكرية، وضد الحرب على العراق، وادانة الاعتداءات ضد الشعب الفلسطيني، والاكراد وشعب الشيشان، والتهديدات بالحرب ضد كوريا، ورفض سياسات البنك الدولي ومنظمة الدول الصناعية الثماني، ومع المطالبة بحذف ديون الدول الفقيرة، والتأكيد على تطوير الشبكة العالمية للحركات الاجتماعية الأهلية!.. والمنتديان تحول جديد في كيفية المواجهة بين ذئاب الشمال وقطعان الجنوب، والجنوب «اللاتيني» تخطى بجدارة ضيق خلافات الميتافيزيقيا إلى سعة فلسفة العمل السلمي، وتجاوز عنف سياسة التحريض إلى مبدأ المشاركة بفعالية في معركة الإنسان ضد هيمنة قوى الشركات العالمية على مصادر الخام ومنتجاته..
والواقع المحلي يزخر بمعطيات مخالفة في الظواهر لفصول التطور البشري في الغرب، ولكن صرير حركة عجلة الصراعات غير المرئية بدأ يرتفع، وتتشكل في أجوائه معادلة تشابه لحد ما قصة الخراف مع الإنسان في القرن السادس عشر الإنجليزي «الذئبية الرأسمالية» ففي الوقت الحاضر، يشهد المجتمع مأساة جديدة عن حالة «الإنسان يأكل الإنسان»، فغالبية التجار ورجال الأعمال الذين يفقدهم تعلقهم بأولويات مصالحهم، القدرة على قيادة الاقتصاد المحلي للخروج من أزمته، يساهمون بفعالية في محاولة إعادة إنتاج أدوار ذلك الفصل الشهير من التاريخ، من خلال جني الربح الوفير من استقدام أو «استغلال» عمالة رخيصة من الخارج.. «الخراف» التي تغنيهم عن توظيف أبناء الوطن.
والإنسان «الذئب» في ثقافتنا لا يستمد دلالته الرمزية فقط من مقولة فلسفية تحدد صفة معركة السوق الحرة، كما هو الحال في إنجلترا مهد الرأسمالية، بل أيضاً من جذور الثقافة العربية القبلية، فإذا قيل «فلان ذيب» فهو مديح يصل بالممدوح لدرجة الكمال في الصحراء العربية، والذئبية هي صفات ترفض الرضوخ لقانون محدد، أو لميزة مقيدة كالوفاء أو الالتزام بمصلحة عامة، وهذا ما يزيد من حالة الذئبنة لرجال الأعمال المحليين، وهي حالة نادرة، تم التوفيق فيها بمهارة بين تراث ذئب الصحراء وحداثة ذئب الرسملة المتوحش، لذلك تؤدي تبعات حركتهم «الذئبية» في السوق إلى حالة محزنة من البؤس، كشفت عن ملامحها مؤخراً الارادة السياسية الشجاعة، وأبرزتها قنوات الإعلام خلال الأشهر القليلة الماضية، وما يزيد من صرير العجلات، غياب قوى مدنية اجتماعية محلية، تحاكي محاولات التوازن بين قوى قطبي الشمال والجنوب في دافوس وبورتو اليغري، وتقاوم شراهة المعركة في سوق السلعة التجارية، في وسط نظام اقتصادي «ذئبي» متحرر من قيود المصلحة الوطنية!..
فالمؤسسة مثلاً التي تتاجر بضروريات الإنسان، وتحولها تدريجياً إلى سلعة استهلاكية، ستتمادى في تسليعها، إذا لم يسمح بمواجهة نفوذها في السوق.. والمسؤول الذي يصرح «بثقة متناهية» على صفحات الجريدة ان اقتصادنا «حر»، يغيب عنه بالتأكيد ادراك الفرق في المعنى بين دلالة «الحر» الرمزية في الثقافة المحلية، وبين مقاصده الغربية في التطبيقات الاقتصادية..، والمسؤول الذي يعلن عن استقدام عشرات الآلاف من العمالة الأجنبية في طفرة البطالة المحلية، سيزيد من حجم المأساة ويشارك في ازدياد أعداد الشحاذين في أسواق المدينة، أما «الكاتب» الذي ينادي ب«توزير رجال الأعمال» في مجتمع لا توجد فيه قوى مدنية تدافع عن حقوقها في فرص العمل، ولا توجد فيه استراتيجية وطنية لحماية مواردها البشرية والتجارية، ولم يستجب فيه مجتمع رجال الأعمال للنداءات الحكومية للسعودة!.. فهو بالتأكيد يقود حملة دعائية «لأحدهم» في دهاليز الأروقة الصحفية.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved