قال لي سائق التاكسي الفرنسي ذو الأنف الطويل المحدب، وعينان واسعتان وفم متسق مع طول الأنف.. وذراعان طويلان لايكفان عن الحركة أثناء حديثه، وهو ينقلني من مطار «شارل ديجول» إلى «الحي اللاتيني» قلب باريس: هل أنت قادم على متن «الكونكورد» فأجبته إنني قادم من مسافة قريبة لا تستخدمها هذه الطائرة العملاقة، قال: إننا الفرنسيون نفخر بأشياء كثيرة أهمها «الكونكورد» و«اللوغف» أي متحف «اللوفر»، واسترسل قائلاً: وأنت في أقدم أحياء باريس، ستشاهد مسرح «الأوديون» إنهم يعرضون أهم المسرحيات الكلاسيكية العظيمة، وإذا كنت من عشاق المتعة الذاتية فستشاهد ذلك في «الليدو» و«المونالورج» وستشاهد التاريخ في «قصر فرساي» أما تاريخ الحضارات وفنون الأمم فكلها في «اللوفر».
سائق مثقف لا تجد له مثيلا إلا في «باريس» لكن أهم ما شد انتباهي في حديثه ورحت أحلله على طريقتي، هو ربطه بين «الأصالة والمعاصرة» في كل حديثه هذه الثنائية التي تقوم عليها بلاد كفرنسا.. الكونكورد ومتحف «اللوفر» وبقية الأسماء التي ذكرها. إنها الثنائية التي تقوم عليها ثقافة هذه البلاد. وهي الأساس في صناعة السياحة في معظم البلدان التي تجيد هذه الصناعة.
مرجعية هذه الثقافة تعود إلى عدة قرون من اعتماد الثقافة أساسا لبناء الأمة، حينما وقف «نابليون» امبراطور فرنسا في جمع من العلماء الفرنسيين في الجمعية العلمية والأدبية الفرنسية في عام 1798م.
وفي يديه كتاب رحلة «نيبور» Nibur.c الرحالة الدانمركي ورائد الرحالة الغربيين قبل أكثر من ثلاثة قرون «رحلة إلى العربية» وقال علينا ان نقرأ هذا الكتاب حتى نعرف تلك البلدان وأولئك الشعوب، وان نتعرف كيف نرتاد بلدانهم.
وقرر ان ينتخب عدداً من العلماء لمرافقته في حملته إلى مصر، بلغ عددهم مائة وخمسة وسبعين عالماً، من المستشرقين والفلكيين والرسامين وعلماء في الهندسة والكيمياء وشعراء وجغرافيين ونتج عن ذلك ماهو معروف بعد ذلك.
وهكذا توالت الكشوف العلمية الفرنسية لبلدان الشرق العربي.. وضم متحف «اللوفر» أهم مقتنيات تاريخ تلك البلدان.
وفي متحف «اللوفر» يشاهد الزائر أثراً مهماً من آثار بلادنا هو «حجر تيمياء» الشهير والذي يحوي نقشاً من أعظم النقوش التي كُشف عنها حتى الآن قيمة أثرية -على نحو ما يعبر عنه علامة الجزيرة العربية الراحل حمد الجاسر- ويعود تاريخ هذا الحجر والكتابة عليه إلى القرن الخامس قبل الميلاد والكتابة عليه باللغة الأرامية.
إن قصة اكتشاف هذا الحجر ونقله بعد ذلك إلى باريس.. تكاد ان تكون من ضمن الاستجابات الكثيرة لدعوة الامبراطور الفرنسي التي عبر عنها وهو يشير إلى رحلة «نيبور» وهي في نفس الوقت قصة «دراماتيكية» بل ان ما حدث بعد ذلك لمكتشف هذا الحجر لأشبه مايكون بالمآسي الاغريقية التي تحكيها تلك الأساطير الاغريقية الموحية إن بطلها هو الرحالة الفرنسي شارلز هوبر Charles Huber الذي وصل إلى حائل عام 1883 و1884م يرافقه عالم الآثار الألماني جوليوس اوتينج Euting وزار بلدة تيماء وتبوك في أوائل عام 1884م. وقام كذلك بزيارة لبلدة العلا وتمكن في تيمياء من العثور على حجر تيمياء ونقله إلى العلا ثم إلى دمشق بطريق (سكة حديد الحجاز) ثم إلى متحف «اللوفر» في باريس.
وقد وصل التنافس بين هوبر الفرنسي واوتينج الألماني إلى مرتبة الادعاء بأن احدهما يدعي أنه مكتشف الحجر إذ كان الألماني يبعث بملاحظاته إلى المستشرق الألماني المعروف «نولدكه» مدعياً انه هو الذي اكتشف الحجر، بينما كان الفرنسي «هوبر» يرسل صوراً للحجر وملاحظاته إلى «رينان» المستشرق الفرنسي الشهير في باريس، وكان يودع كل ملاحظاته وتسجيلاته لدى القنصلية الفرنسية في جدة مما حفظ تراثه الذي طبع في باريس سنة 1888م بعد وفاته. لكن المأساة في حياة هذا المستكشف تتلخص في انه مات كما لو كان قد دفع حياته ثمنا لمجد حققه لنفسه ولبلاده وهو في عالم الغيب. إن جذوة المعرفة وحب الاستكشاف كانت بمثابة قصة اللهب والفراش.. سوف استدعي نصاً كتبه علامة الجزيرة العربية الراحل: حمد الجاسر عن نهاية هذا الرحالة المستكشف وفيه مغزى لما أود الإفصاح عنه فيما يتعلق بموضوعنا الرئيسي «السياحة والثقافة» يقول:
«وكان هوبر لم تطب نفسه بذلك فأعاد الكرة مرة أخرى وزار ابن رشيد في حائل، ومعروف ان ابن رشيد يظهر الخضوع للدولة العثمانية، الذي يظهر انها هي التي يسرت لهوبر رحلاته ولكنه بقدر ما وفق في رحلته الأولى خالفه التوفيق في الثانية، ذلك ان ابن رشيد بعث في اثره رجلا يدعى ابن شميلان من شيوخ قبيلة هتيم وأمره بأن يسير بسيره حتى يصل إلى بلدة العلا منهياً رحلته، وخارجاً من حدود إمارة ابن رشيد وحينئذ يقتله ويحرق كل أوراقه وما معه ماعدا الأشياء التي يحتاج إليها من متاع وزاد ولباس، فهذه لابن شميلان نفسه، وقد نفذ الرجل أمر سيده».
ويظهر ان ابن رشيد كان سيئ الظن بالرجل وانه كان يخشى من ان يكون جاسوساً أو إنساناً كلف بعمل من شأنه امتداد النفوذ الأجنبي إلى جزيرة العرب، والغريب في الأمر ان ابن رشيد لم يكتف بذلك، بل ارسل أناساً يتتبعون المواقع التي علم بأن هوبر نقل منها كتابات وكان مرافقوه عندما يشاهدونه ينقل الكتابة يظنون انه يكتبها هو في الأحجار، ذلك بأنه يستعمل بعض الوسائل التي توضح الكتابة فنقلوا لابن رشيد انه يكتب في الجبال وفوق الأحجار فأرسل أناساً أمرهم بتكسير كل الأحجار التي فيها كتابة مما نقله هوبر.
وهكذا الجهل فما الذي يضير ابن رشيد لو أمر بحفظ أوراقه وما نقل من آثار أو أبقى الكتابات التي شاهدها؟! (انتهى) غرب الجزيرة، ص354.
وهكذا ولأسباب تاريخية وسسيولوجيبا اجتماعية، وهول وفزع من الطارئ القادم الذي يشكل اقتحاماً وخطراً - وكان لأهل ذلك الزمن من أسباب تبرر ذلك - فقدنا كثيرا من الشواهد الآثارية التي تدل علينا وعلى تاريخنا، مما نحن في أشد الحاجة إليه في فترة البحث عن رافد ومسوغ لبناء صناعة السياحة التي نشيدها الآن، بل ان الظروف المناخية وعواتي الزمن قد طمرت كثيراً من شواهد المدن والتحضر التي كانت قائمة في هذه الجزيرة حتى لكأنما تلكما اليدان: يد العوامل المناخية ويد البشر التي كانت لا تعي ما تفعله، قد تضافرتا لتساعدا في اسدال ستار، طمس منطقتنا من خارطة تاريخ الحضارة، التي عرفت في بلاد مابين النهرين وبلاد الشام ومصر، التي تم تدعيم وجودها على هذه الخارطة بموجودات ومخلفات آثارية، بينما بقينا على خارطة النص التاريخي فقط التي تحتمل التأويل والدحض في غياب محصلات الكشوف الجغرافية الأثرية، ولعل مسألة النص التاريخي هي التي حملت عالم اللغات السامية الشهير «رينان» إلى القول إنه لم يكن لجزيرة العرب شأن في القرن الأول من الميلاد ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد، والغريب ان يصدر هذا الرأي من عالم الساميات الذي يعرف ان العرب في جذورهم البشرية، هم أمة من الأمم السامية التي كانت لهم حضارتهم في تخوم الجزيرة الشمالية التي عرفت بفضل الكشوف الآثارية. وهو الأمر الذي لاتزال أواسط الجزيرة العربية لاتعرفها، ومن المؤكد قيام حضارة باذخة فيها حفظتها بعض النصوص في كتب البلدان - وهو ماسوف أشير إليه في هذه المقالات - وقد فَندَ رأي «رينان» ودفع ببطلانه العلامة «غوستاف لوبون» الذي قال: «هذا الرأي فاسد أول وهلة ولو لم نعلم شيئا عن ماضي العرب، فإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ لا يكون هذا إلا نتيجة نضج بطيء، فلا يتم تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون هذا إلا نتيجة نُضج بطيء فلا يتم تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات إلا بالتدرج وان ظهور الحضارات على مسرح التاريخ لا يأتي إلا ثمرة ماض طويل (حضارة العرب، ص87). منطق فكري وعلمي تُدعمه نظرية تطور نشوء الحضارات لكن مجاله يظل في الكتب وقاعات الدرس والجدل العلمي، بينما يظل التجسيد والشاهد الحي الذي يدعم النص خابئاً تحت الرمال في مناطق هي محميات أثرية في مناطق متعددة من بلادنا، لكنها مهملة وليست بمحميات على الواقع العملي وإنما دَهست الطرق معظمها وبعضها أقيمت عليها القرى وبعضها مهمل في الفيافي. إذ لا بد من خطة جادة لتقييم مناطق البحث الآثاري والبدء في عمليات التنقيب وفق خطة علمية زمنية، لقد كانت التجربة الأولى في عمليات البحث الآثاري في منطقة «الفاو» التي قام بها فريق من جامعة الملك سعود منذ سنوات بريادة وجهد علمي من رائد البحث الآثاري الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري وفريقه من شداة البحث العلمي الذين أصبحوا أساتذة الآن ينتظرهم عمل كبير لم يتم حتى الآن، تلك التجربة كانت ايجابية ومبهرة.
لقد كانت بداية للكشف عن مدينة مهمة في الجزء الجنوبي من بلادنا. وفي الطريق إليها من العاصمة الرياض تقبع مدن تاريخية مهمة موجودة في النص التاريخي لكنها زائلة عن الوجود المحسوس الآن. كل هذا الزاد هو المكون الثقافي لصناعة السياحة في بلادنا. إن المكون السياحي، ليس في بناء المنتجعات الفاخرة والإقامة في الفنادق ورحلات الصيد، وإقامة ليالي السفاري في الصحاري فقط. وإنما لا بد من وجود مكون ثقافي يعتمد بالدرجة الأولى على تقديم الماضي حاضرا في مدن قائمة يتم اكتشافها وفي إرث مبعثر يتم تجميعه في متاحف. ان بلاداً هي في المرتبة الأولى على خارطة السياحة الدولية تنعم بهذا الإرث الحضاري سواء كان إرثها أو إرث أمم جلبته إليها وأقامت له المتاحف. تبرز أسبانيا وفرنسا مثلا لذلك. وكم كان ذلك السائق الفرنسي صادقاً ومتوحداً مع وعيه وفخره ب«الكونكورد» و«اللوفر» الذي يستقبل خمسة وعشرين مليون زائر كل عام.
|