Friday 31th January,2003 11082العدد الجمعة 28 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
الحلم الدافىء
شموع محمد الزويهري

تعالى صوتها منادياً.. نهض بفزع وتراءى له بأنها الحرب.. صار يعرك أجفانه بشدة وبسرعة فما زالت بقايا الحلم الجميل تسكن أهدابه ورائحة والدته تتسرب عبر أنفه الصغير..
هرول مسرعاً يلبي النداء فلم تكن غير زوجة أبيه كالمعتاد تريده كي يذهب إلى المخبز.
ويجلب لها بعض الأغراض من «المتجر» حتى لا يتأخر أولادها عن مدارسهم. فقد تعود على ذلك!!
خطف منها المبلغ وخرج على عجل حتى إذا غاب عن ناظريه المنزل بدأت خطواته تتثاقل وكأنه يشحذ الحلم الجميل بالعودة، هو الآن بعيد عنها وعن صراخها ومعاملتها القاسية ولكن...
الذي يذهب لا يعود.. اليوم انقضى لا يمكن أن يبدأ ذاته ثانية وسيأتي غداً غيره تشرق به الشمس من جديد.. تحمل أحداثاً أخرى.
وقف أمام المتجر وصار يبحلق بالبائع والواقفين دون أن ينبس بكلمة فقد كان يعيش عالماً آخر.. أحداثاً أخرى بعيدة عن جسده المتحرك ونظراته المنطلقة بلا هدف.
لم يفقه غير ارتطامه بإحدى العربات التي أمامه ونهر العامل له: «ألا ترى»؟؟؟
استعاد وعيه معتذراً وهو ينظر إلى ساعة الحائط المعلقة أمامه، فيخطف أشياءه ويطلق لخطواته العنان.
حتى إذا وصل المنزل لاهثاً دفع الباب ودلف منه وسط دهشة إخوانه التي انتهت بقهقهة عالية وتأنيب زوجة أبيه له لتأخره.
وضع الأشياء على المنضدة ودخل الغرفة المجاورة فبكى ومسح دموعه حتى لا يقال له إنه طفل فهو رجل يبلغ التاسعة الآن ولكن..
الجو قارس وأنا جائع وهناك بأمعائي آلام شرسة ترسل إلى كبدي وخزاتها فيساعدها القلب المثقل.. حتى تندفع عبر بلعومي فتهل أمطار دمعي رغماً عني!!
حدثته نفسه: أخرج والدك على وشك النزول من غرفته، اجلس بجانبه لن تستطيع مشاكستك أمامه على الأقل؟!
خرج وهو يستقبل والده عند الدرج ولم يفاجئه شيء جديد!! نفس القسمات الغاضبة بلا سبب وذلك الجبين المقطب عندما يراه.
جلس بقرب السفرة وبدأت أنامله تمتد إلى الطعام حتى إذا ما وضع اللقمة بفمه صرخ بوجهه أبوه ألم تغسل يديك.. ألم أحذرك بألا تأكل قبل غسل يديك!!
ازدرد اللقمة المرّة حتى بدت له كأنها قطعة صلبة تدحرجت عبر بلعومه بصعوبة بالغة.
نهض مسرعاً فلم يعد هناك وقت.. حمل حقيبته والتفت مودعاً السفرة ومن عليها وخرج إلى مدرسته.
كان الطريق طويلاً والمطر بدأ بالتساقط كأنه أصر على مجاراة دموعه.
«ناصر» ذلك الطفل الصغير يحمل بقلبه ثقلاً لا تحمله الجبال، سلوته الوحيدة حين يختلي بنفسه ويسار.. يسبح خياله بين كتل الغيوم البيضاء.
تلك الغيمة تهمه.. يصغي لهمسها تذكره نعومة والدته وتتسرب عبر أنفه الصغير عبق ريحها..
وصل المدرسة وهو لا يعلم كيف؟!! فقط عيناه وجسده المتحرك هما من أوصلاه.
انتهى اليوم الدراسي وأقفل عائداً، كان آخر أيام الدوام فغداً تبدأ إجازة العيد..
وصل إلى منزله فأحس بحركة غريبة وهمس!!
تلبسه نوع من الحزن والإحساس بالغربة.. شعر بأنه منفي بلا وطن.. بلا انتماء.
اقترب من أكبر اخوانه الأقرب إلى سنه وهمس بأذنه: ما هي الحكاية؟!
رمقه بنظرة استهزاء وهز كتفيه ومضى.
دلف إلى غرفته وألقى جسده الصغير على سريره وراح يفكر.. لم يوقظه من غفلته غير «بدور» الشقيقة الصغرى حين دخلت عليه تقول: هيا يا «ناصر» لماذا لم تجهز حقيبتك فبعد قليل سنسافر!!
نهض إليها وقبلها وطلب منها مساعدته!!
كان يجمع بعض أغراضه وكل ما يخص البحر..
«بدور» قالت إننا سنسافر إلى البحر ويجب أن أكون جاهزاً حتى لا تغضب مني «خالتي» ويغضب أبي!!
حمل حقيبته وهرول ليتخطى درج السلم بعجل.. ويجد الجميع متحفزين الكل في عمل؟
فاجأته خالته «فوزية» حين قالت له جاهز هاه!! من قال بأنك سترافقنا!!
لم يستطع.. لم يعد يحتمل فليقولوا عنه طفل يبكي فدموعه لم تعطه حتى فرصة للاختباء، أحس بالضيم والقهر.
كانت تلك الدموع المتساقطة غزيرة جداً كأنها مخزون عام كامل، لم يوقفها غير والده الذي ربت على كتفه وهو يخبره بأنه سيذهب إلى عمته أو خالته حتى عودتهم لأن خالته «فوزية» غاضبة منه؟!
التفت إليها باكيا ولأول مرة بعدد سنوات عمره الصغيرة صرخ بأعلى صوته: ماذا فعلت؟!.. ما هو خطئي بحقك!!..
لقد استللت حتى أحلامي الدافئة في لحظة رعب من بين أهدابي وزججتِ بي إلى الشارع في وقت لم تكن الشمس فيه قد بزغت بحجة واهية وصمت حتى ترضي مني.. كرهتِ وجودي بين اخوتي وشددتِ عليّ العقاب عندما يتكلم أحد عن قسماتي التي أخذت الكثير من والدتي ولم أخبر والدي!! ماذا تريدين مني؟!
ماذا يرضيك؟!
اندفع بعدها إلى الخارج هائماً على وجهه لا يعرف إلى أين يذهب حتى ثقلت خطواته وبدأت تلك الغيوم تستدرجه.. تنتشله من عالمه إليها فصار ينظر إلى السماء وشكلها.. ويصورها حتى عثر عليها.. نعم هي الغيمة التي تشبه والدته.. اقترب منها.. مد أنامله الصغيرة إليها..
ما هي إلا لحظات وصوت ارتطام
وصرخات كانت وراءه لم تكن
غير صرخات والده محذراً إياه من
الشاحنة الكبيرة ولكن لم يهمه غير
شيء واحد إنه راحل إلى الحلم الدافئ!!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved