تكررت الاتصالات الهاتفية توصيني بهذه المريضة وترجوني استقبالها خارج وقت العيادة، إنها مديرة شركة لا تسمح لها مشاغلها بترك العمل لذلك كان علي انتظارها على مضض لوقت متأخر في عيادتي نزولا عند رغبة الأصدقاء.
السيدة في الأربعينيات، تحمل الدكتوراه، عالية الثقافة ولها حضور اجتماعي مميز، تشكو من كتلة في الثدي اكتشفتها منذ سنتين، تزايد حجم الكتلة في الأشهر الأخيرة أقلقها ودفعها الى طلب استشارتي. في العيادة بدت متوترة جدا وأخبرتني بإصابة والدتها بسرطان الثدي، الفحص الطبي أثبت وجود كتلة كبيرة الحجم في الثدي تأكد وجودها بالفحص الإشعاعي للثدي المسمى (الماموجرام) أيضا، كذلك أثبت فحص العينة التي أخذت بالإبرة من الورم وجود خلايا سرطانية، التشخيص هنا ورم متقدم في الثدي يعالج في هذه المرحلة باستئصال الثدي جراحيا واعطاء جرعات من العلاج الكيماوي والإشعاعي، تم علاج السيدة وأجري لها بالإضافة إلى الجراحة والعلاج الكيماوي والإشعاعي بناء ثدي بديل مكان الثدي المستأصل وعادت إلى مزاولة عملها وحياتها الاجتماعية بعد رحلة طويلة من الألم والخوف، كما أنها تعالج الآن بعقار التاموكسفين وهو علاج يعطى للوقاية من الإصابة بالمرض في الثدي الآخر، هذه التجربة ومثيلاتها تجعلني في كل مرة أطرح على نفسي أسئلة كثيرة؟ هل هذه المعاناة ضرورية لا يمكن تفاديها؟ هل بالإمكان تجنب أو حتى اختصار هذه المعاناة؟
تطور التعامل العلمي مع أورام الثدي كثيرا في الخمسين سنة الأخيرة وذلك لمصلحة المريض وهناك نقطتان مهمتان في الإستراتيجية الطبية للتعامل مع هذه الأورام هما: الاكتشاف المبكر والعلاج المحافظ، الاكتشاف المبكر يعني التعرف على وجود الورم في مراحله الأولية أو قبل تشكل الورم ونفاذه إلى الأنسجة، هذا الكشف المبكر يعطي الجراح إمكانية الجراحة المحافظة التي تتعامل جراحيا مع الورم فقط دون الحاجة الى إزالة الثدي ومن ثم تختصر كثيرا من مراحل علاج الورم ومعاناتها.
عند اكتشاف المرض في مراحله المبكرة يقتصر العلاج على الكتلة دون استئصال بالثدي، لفهم هذه الاستراتيجية العلاجية هناك حقيقتان علميتان في آلية تشكل الأورام من المهم التعرف عليهما، النقطة الأولى هي وقت التشكل (Labeling time) وهو الوقت اللازم لتحول خلية سليمة في الثدي إلى ورم سرطاني، هذا الوقت يتراوح في العادة بين 11 إلى15 سنة من بداية التغير المرضي في الخلية وحتى تحولها إلى خلية سرطانية، أما وقت التضاعف (Doubling time) فهو الوقت اللازم كي يتضاعف حجم الورم وهي قصيرة جدا تقدر بنحو ثلاثة أشهر، هذا يعني أن الطبيب والمريضة يملكان وقتا طويلا يقدر بالسنين لاكتشاف وجود تغيرات تؤدي إلى الورم بينما الوقت قصير جدا في حال تشكل الورم فهو يقدر ببضعة أشهر يتضاعف خلالها حجم الورم ومن ثم يجب التعامل مع الورم بالسرعة الممكنة ولا مجال هنا للانتظار.
هذا يوضح أهمية الاكتشاف المبكر الذي يعطي الفرصة للعلاج المحافظ.
تم اعتماد شهر اكتو بر (تشرين الأول) من كل عام كشهر للعناية بالثدي وذلك من وزارة الصحة الأمريكية والمنظمات الصحية بالعالم الغربي، في هذا الشهر تتوجه السيدات فوق سن الأربعين إلى المستشفيات والعيادات الجراحية للكشف السنوي على الثدي وإجراء الفحص الشعاعي الماموجرام، كذلك تقام حملات توعية في أغلب وسائل الإعلام في كثير من الدول وبالذات الدول الغربية حيث معدلات الإصابة بسرطان الثدي عالية جدا قد تصل لاصابة امرأة من كل ثماني نساء في فترة العمر، هذا التزايد في معدلات الإصابة بأورام الثدي لم يعد مقتصرا على العالم الغربي بل تعداه إلى العالم العربي ولو بنسب أقل، إن ذلك يفرض علينا جميعا القيام بإجراءات صحية وكذلك إجراءات توعية بهذه المشكلة للتمكن من التعامل معها وتحييد الآثار الضارة لهذا المرض على صحة النساء في مجتمعنا.
الثدي بالإضافة إلى وظيفته الأساسية كعضو تغذية، اكتسب أبعادا أخرى جنسية وعاطفية وهو كذلك مظهر اعتزاز أنثوي بالإضافة إلى قيمة الأمومة التي يمثلها، يتكون الثدي أساسا من غدد مهمتها إفراز الحليب وقنوات تنقل الحليب إلى الحلمة.
تنتظم الغدد في 15 - 20 مجموعة من الفصوص في كل ثدي. لكل مجموعة قناتها الرئيسية والتي تنتهي بدورها في الحلمة. يتطور الثدي ويعمل وتتأثر خلاياه بمجموعة من الهرمونات التي تفرز من المبايض وبعض الغدد الصماء في الجسم، أهم هذه الهرمونات الاستروجين والبروجستيرون التي تفرز دوريا من المبايض في كل شهر حتى انقطاع الدورة، مهمة الهرمونات تحضير الثدي للحمل والإرضاع الذي يتكرر شهريا، أما هرمون البرولاكتين الذي تفرزه الغدة النخامية الموجودة تحت المخ فهو مسؤول عن إفراز الحليب في الثدي بعد الولادة.
تنشأ أورام الثدي تحت تأثير ثلاث مجموعات من العوامل هي العامل الوراثي، والعامل الهرموني، وكذلك العامل البيئي.
عشرة في المائة من أورام الثدي تقريبا تحدث لنساء لهن أقارب مصابات بسرطان الثدي كالأم والأخت أو الخالة أو العمة أو بنات الخالة أو العمة، في هذه الحالات تحدث الإصابة بسبب مورثات جينية تنقل إمكانية الإصابة من جيل الى آخر، لقد تم اكتشاف بعض هذه المورثات في العقد الماضي ومازال البحث العلمي جاريا لاكتشاف المزيد من هذه المورثات.
خلايا الثدي حساسة جدا للهرمونات واستمرار تعرضها لهذه الهرمونات وخاصة هرمون الاستروجين يزيد من قابليتها للإصابة بأورام الثدي، أما العوامل البيئية التي تساعد على نشوء أورام الثدي فهي كثيرة جدا وقد تم بحث الكثير من العوامل البيئية لتحديد علاقتها القريبة أو البعيدة بنشوء أورام الثدي، هنا تجب الإشارة إلى أن تغير الحياة باتجاه النمط الغربي وارتفاع المستوى الاجتماعي والاقتصادي قد يكونان من أهم عوامل انتشار المرض، أما أكثر العوامل أهمية والتي ثبتت علاقتها بسرطان الثدي فهي الجنس وهو عامل مهم فنسبة إصابة الرجل إلى المرأة بسرطان الثدي هي 1 إلى 100.
العمر عامل مهم أيضا فالنساء في الأربعين وبعدها أكثرعرضة للإصابة بأورام الثدي من النساء في العشرينيات والثلاثينيات بينما تندر الإصابة قبل هذه السن، أما العامل الوراثي فقد سبق شرح أهميته، وجود قريبات مصابات بالمرض من الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة في العائلة تحد يحتم على المرأة عناية وحرصا أكبر بالثدي، الحيض المبكر وانقطاع الدورة المتأخر يعرضان خلايا الثدي الحساسة للهرمونات لدورات أكثر ومن ثم لازدياد احتمال الإصابة بالمرض، كذلك الحمل المتأخر بعد الثلاثين وعدم الحمل والإنجاب يعرض المرأة لنسب إصابة اكثر من المعتاد.
السمنة والتغذية بمأكولات مشبعة بالدهون عوامل مساعدة على زيادة حدوث المرض، ويجب ألاّ ننسى أن الخلايا الدهنية في الجسم تفرز هرمون الاستروجين الذي يتميز بتأثير ضار على خلايا الثدي، التعرض للأشعة في سن مبكرة، قبل الثلاثين يزيد من احتمالات الإصابة بأورام الثدي.
توجد عوامل كثيرة أخرى تزيد من نسب حدوث أورام الثدي مثل الكحول ونوعية العمل والتوزيع الجغرافي والمستوى الاجتماعي والاقتصادي المرتفع وكذلك العادات الغذائية والحياتية التي تزيد من احتمال نشوء أورام الثدي أما التدخين فانه لا يزيد الإصابة بأورام الثدي ولكن يساعد على حدوث التهابات الثدي.
وهناك عوامل أخرى تزيد من مناعة المرأة وتقلل من احتمالات الإصابة بالورم مثل الغذاء الصحي والحمل المبكر وارضاع الأطفال وممارسة الرياضة وتجنب التدخين والكحول وارتفاع الوعي بالعناية الصحية.
كيف تتعامل المرأة مع ثدييها وما هي الإجراءات التي يجب أن تقوم بها لتجنب المرض وعدم الإهمال في حال حدوثه ومن ثم فقدان ميزة الوقاية والاكتشاف المبكر وكذلك العلاج المحافظ؟
بحثت طرق متعددة للكشف المبكر عن أورام الثدي في العقود الثلاثة الأخيرة وجربت في بلاد كثيرة بواسطة مراكز أبحاث مختلفة، وقد تم اعتماد نظام أثبت فاعلية عالية في الاكتشاف المبكر عن أورام الثدي وهو النظام الذي اعتمدته منظمة الأورام الأمريكية وتبعتها باقي المدارس الطبية في العالم ويتلخص في التوصيات الآتية:
- تبدأ المرأة في التعرف على ثدييها في سن العشرين حيث تقوم بإجراء الفحص الذاتي شهريا وذلك في اليوم الأول أو الثاني بعد انقضاء الدورة الشهرية، عندها يكون الثدي أقل تكتلا وحساسية واحتقانا.
- في السن بين العشرين والأربعين ينصح بإجراء فحص عند طبيب أخصائي كل ثلاث سنوات بالإضافة إلى الفحص الذاتي.
- الفحص الشعاعي الأول (الماموجرام) ينصح بإجرائه في السن بين الخامسة والثلاثين والأربعين، بهذا تتأكد المرأة من سلامة الثدي وتحصل على صورة شعاعية مبدئية تمكن الطبيب من مقارنتها مع أي فحص شعاعي مستقبلا وخاصة في حال نشوء أي تغير في الثدي.
- بعد سن الأربعين يجب أن تدخل المرأة في برنامج للكشف المبكر يشتمل على الخطوات الآتية:
1 القيام بالفحص الذاتي كل شهر بعد انتهاء الدورة.
2 فحص الثدي عند الأخصائي سنويا.
3 إجراء فحص شعاعي للثدي (ماموجرام) يترافق مع الفحص الطبي ويتم تقييم الصور الشعاعية من أخصائي الأشعة وتعرض كذلك على أخصائي الثدي.
4 في حال اكتشاف كتلة في الثدي فانه من المهم التعرف على التغير في أنسجة الثدي والوصول إلى تشخيص نسيجي، في هذه الحالة يلجأ الأخصائي إلى أخذ عينة بالإبرة من كتلة الثدي، الخلايا التي يتم امتصاصها عن طريق الإبرة تدرس من قبل أخصائي التشريح النسيجي الذي يقوم بإعطاء تقرير عن التغيرات في الخلايا.
إعطاء مخدر موضعي لتسهيل أخذ العينة يقلل كثيرا من انزعاج السيدة وتوترها أثناء أخذ العينة حسب خبرتنا في هذا المجال.
فحص الثدي والأشعة والدراسة النسيجية تقييم ثلاثي مهم وضروري لأي كتلة في الثدي أو تغير آخر مثل وجود تكلسات في أنسجة الثدي، ثمانون في المائة من كتل الثدي لا تحتاج الى أي علاج والجزء الأكبر من العشرين في المائة الأخرى من كتل الثدي كتل حميدة قد يحتاج الجراح الى إزالتها من الثدي بعملية جراحية إذا لزم الأمر.
الفحص الذاتي هو ما تفعله المرأة بنفسها كخطوة أولى ومهمة من خطوات الاكتشاف المبكر وينقسم إلى خطوتين: الفحص الذاتي بالنظر: تقف المرأة أمام المرآة وتنظر إلى ثدييها بدقة واحد بعد الآخر، هنا يفضل تقسيم الثدي نظريا إلى أربعة أرباع تقوم المرأة بمقارنتها مع بعضها، النظر إلى الصدر النظر مع ميلان الجسم، النظرمع رفع الأيدي إلى الأعلى، إلى الأمام.
تجب ملاحظة أي تغييرات مثل احتقان الأوردة، التغير في حجم الثدي، تقعر أو تحدب جديد في شكل الثدي، تغير في شكل الحلمة مثل أي تقرحات أو انسحاب الحلمة إلى الداخل، وجود إفرازات تخرج من الحلمة أو تلاحظ على الملابس الداخلية للسيدة،الفحص الذاتي باللمس: يستعمل باطن الأصابع يتم فحص الثدي الأيمن باليد لفحص الثدي اليسرى وبالعكس.
يتم فحص أنسجة الثدي، الماء يساعد على انزلاق في العمق، الأصابع على الثدي، في هذه المرحلة تتحسس السيدة مناطق ثدييها المختلفة بباطن الأصابع للتأكد من عدم وجود أي تغييرات في نسيج الثدي مثل وجود كتل أو تورم في الثدي، في حال وجود كتل سبق الكشف عليها يجب متابعتها للتأكد من عدم وجود أي تغيير فيها، بالإضافة إلى تحسس منطقة الثدي، يجب عدم ترك منطقة الإبط إلا بعد فحصها أيضا وذلك لأهميتها القصوى فهي تحتوي على الغدد الليمفاوية التي تنتهي إليها الأوعية الليمفاوية من الثدي. وقد لا تتمكن المرأة في البداية من إكمال الفحص بالدقة المطلوبة ولكنها بتكرار خطوات الفحص الذاتي تتعرف أكثر على ثدييها وتزداد خبرة وثقة، بطريقة الفحوصات تستطيع اكتشاف أي تغير يطرأ على الثدي بسهولة، أما في حالة وجود تغير في الثدي فيجب أن تقوم المرأة بإبلاغ الأخصائي لعمل ما يلزم في مرحلة مبكرة.
تجد بعض السيدات الفحص الذاتي صعبا أو مملا أو مخيفا، مع تأكيد أهميته من الأخصائيين وهنالك الكثيرات ممن يرفضن أو لا يبدين اهتماما بالموضوع بأكمله.
تمت دراسة هذه الظاهرة وتبين أن السبب الأول للابتعاد عن برامج الكشف المبكر هو الخوف من اكتشاف ورم في الثدي ومن ثم مواجهته والسبب الثاني هو الجهل وتدني المستوى العلمي ثم الإهمال والتواكل.
يجب تغليب العقل واستبعاد الهلع غير المبرر الذي يعيق الاستفادة من الميزات الكبيرة للاكتشاف المبكر والعلاج المحافظ ويؤدي في حال حدوث المرض إلى إهماله وتجاهله ومن ثم إلى التأثير السلبي في صحة المرأة ومستقبلها. وفي النهاية أحب أن أذكر أن التغييرات التي تحدث في الثدي تكون غالبا وفي أكثر من ثمانين في المائة تغييرات حميدة لا تحتاج الى أي تدخل جراحي، أما في حال حدوث تغييرات في الثدي تحتاج الى الجراحة فإنها تقتصر على تدخل بسيط ومحدود وهذا فقط في حال الاكتشاف المبكر، في هذه الحالة تكون نتائج العلاج ممتازة تؤدي إلى الشفاء التام من المرض في أغلب الحالات.
(*)استشاري جراحة عامة وجراحة مناظير العيادات الاستشارية مستشفى المملكة
الرياض السعودية
|