التاريخ.. أحداث ومواقف.. بعضها يندثر ويضيع في خضم الاحداث ولا يترك أثراً خالداً، وبعضها يبقى خالداً في سجل التاريخ لا ينكره الصديق والوفي، ولا يقدر على نفيه ناكر الجميل، بل يترك بصمات بيضاء ثابتة تضيء الماضي والتاريخ عبر العصور والازمان مهما طالت.
ورغم ان التاريخ يسجل «حضارات سادت ثم بادت» ويسجل الاحداث حلوها ومرها ورغم ما يقال ان لكل زمان دولة ورجال الا ان هذا التاريخ لا يتجاهل بعض المواقف وبعض الرجال الذين يخلدهم ليبقوا علامة بارزة ونجوماً ساطعة في جبين الزمن رغم مرور السنين وتعاقب الملايين من البشر.
حديثي عن التاريخ وعن مواقف بعض الرجال والقيادات الذين يخلدهم التاريخ الحاضر ويمجدهم المستقبل، هو بعد ان اطلعت على كتاب «مذكرات وريثة العروش الاميرة بديعة بنت الملك علي حفيدة ملك العرب الشريف بن علي»، كتاب جاء على شكل مذكرات سردية لأحداث تاريخية وصدر مؤخراً في لندن ويروي على لسان الاميرة «بديعة» سيرة اهلها ملوك وملكات الشام والاردن والعراق للمحامي العراقي فائق الشيخ علي.
على الرغم من ان هذه المذكرات مليئة بالمعلومات والوقائع والاحداث السياسية والاجتماعية وغيرها فليس المهم ان نتفق مع كل ما ورد من احداث تاريخية وسياسية واجتماعية فذلك يحتاج الى متخصصين في هذا الشأن لقراءته وتحليله، ولكن ثمة نقطتان هما كل ما يهمني في هذه المذكرات المؤلمة التي ترويها الاميرة «بديعة» بمرارة وحسرة وألم، اود تبيانهما لكي يعرف القارىء الكريم ان لا احد يستطيع حجب حقائق التاريخ.
النقطة الاولى: ما آل اليه حال العراق وشعبه منذ الانقلاب على الملكية عام 1958 وحتى كتابة هذه المقالة من مأتم وعذاب واحزان وظلم نال كل بيت عراقي، وجرائم ابادة تقشعر لها الابدان، ومجازر مروعة بحق ابناء الشعب العراقي على يد حكامه، وانتهاك واضح لثروات الشعب وتدمير متعمد لكل ما هو حضاري لهذا البلد، وهجرات سرية وعلنية لكبار العلماء والادباء والشعراء والمثقفين ولاجئين سياسيين.. هروباً من البطش والذل والظلم والمهانة.. وتحقير لكل ما هو آدمي دون وازع ديني او خلقي او انساني، وهذا ما حصده الشعب العراقي وما كسبه من ثورات وانقلابات حكامه.
النقطة الثانية والمهمة: تحت عنوان رئيس: «موقف سعودي لا ينسى» ذكرت الاميرة بديعة بمذكراتها عن الموقف السعودي الشهم: «ليس بجديد على آل سعود وعلى القيم التي زرعها مؤسس المملكة العربية السعودية وموحدها الملك عبد العزيز «طيب الله ثراه» في نفوس ابنائه الملوك من بعده واحفاده من نخوة وشهامة ونصرة للملهوف وحماية واحتضان للمستغيث فكان وذريته نعم الحامي والمحامي».
روت الاميرة في مذكراتها تلك وهي في محنة الضياع والتشرد، وخروجها بالعباءة برفقة زوجها الشريف حسين وطفليها بعد ان ذبح الانقلابيون جميع اهلها في قصر الرحاب، خرجت منكوبة مفزوعة هاربة من الموت ولا تعرف مكاناً تتوجه اليه او الى من تطلب الحماية والفزعة في هذا الجو الفوضوي الانقلابي المفزع والمخيف، وفي خضم تلك الاحداث المريرة لم تجد امامها سوى سفارة المملكة العربية السعودية في بغداد.. حيث شعرت ومن معها بالأمن والامان.
وتقول الأميرة: «وعلمت بعد ذلك ان الملك سعود بن عبد العزيز «رحمه الله» قد جعلهم جميعا على عاتق سفيره في بغداد وامره ان يحافظ عليهم بأي ثمن، وابلغه أنهم في ذمته وبرقبته»، وان وقع اي مكروه لهم فسوف يتحمل السفير مسؤولية ذلك».
هذا الموقف التاريخي والانساني للملك سعود «رحمه الله» في تلك الحقبة من الزمن لم يندثر، بل سجل بحروف لامعة مضيئة لتؤكد هذه المواقف على ثوابت قادة هذه البلاد حفظها الله حيال اشقائهم العرب والمسلمين في كل مكان بدءاً من المؤسس البطل الملك عبد العزيز «طيب الله ثراه، فالملك سعود «رحمه الله» ثم الملك فيصل «رحمه الله» رائد التضامن الاسلامي والعربي، ثم الملك خالد «رحمه الله» بمناقبه الانسانية وحتى عصرنا الزاهر عصر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ورعاه ووقوفه ودعمه للأشقاء العرب والمسلمين في كل محنة. ومد يد العون لهم ومن ابرزها الرعاية الاخوية لاتفاق الطائف ودعم العمل الاسلامي في كل مكان واستضافة حكومة الكويت ابان الغزو العراقي والقرار التاريخي لتحريرها، علاوة على الدعم اللامحدود للقضية العربية الكبرى القضية الفلسطينية وعلى كافة الاصعدة السياسية والاجتماعية والمالية وكل ما يهم هذه الامة، وغيرها من المواقف التي كثير منها لا يعلمها احد حتى يأتي يوم ويكشفها التاريخ ونقرأ عنها في مثل هذه المذكرات «دون منَّة» ولسنا هنا بصدد تعداد مناقب قادة هذه البلاد لأن هذا يحتاج الى مجلدات وانما استلزم ذكرها في ظل سياق هذه المقالة بقصد الاشارة الى ان ذلك يبقى ثوابت من القيم والتعامل الشهم لقادة هذه البلاد مع الجميع الذي فاح عبيره بعد ان ترك هؤلاء المنكوبون عروشهم وقصورهم وأرغموا على ذلك.
هذه هي الشيم ونبل الاخلاق والحنكة السياسية فالتاريخ اعاده واكتشف نفسه وسجل المقولة الخالدة للملك سعود «رحمه الله» عندما شارك في حفل تتويج الملك فيصل الثاني عام 1953م في بغداد حيث اقيمت له مأدبة كبرى قال مخاطباً الملك فيصل الثاني: «حينما تقع العيون على العيون ننسى ما بيننا ونطوي صفحة مؤلمة من الماضي».
وتعود الاميرة لتثير أيضاً بمذكراتها المساعي الدبلوماسية الحثيثة التي قامت بها الحكومة السعودية مع حكومة الانقلاب في ذلك الوقت من وراء الكواليس بهدف تأمين اخراجهم سالمين من السفارة السعودية وبالتالي من العراق بأمان الى بلد آخر وقد لمسوا ذلك الحرص من خلال الدور الذي لعبه السفير السعودي آنذاك ابراهيم السويل في بغداد.
وأعود لكتاب «مذكرات وريثة العروش» واقول إنها تصور بعض أحداث التاريخ العربي المعاصر، ولفت انتباه لمن فتنتهم وبهرتهم الانظمة الثورية، التي ظهرت «دكتاتورياتها» على حقيقتها فيما بعد، وها هي شعوبهم تترحم على ايام الملكية، وسجل يا تاريخ. والله المستعان.
|