Wednesday 29th January,2003 11080العدد الاربعاء 26 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

حركات التجديد في المسرح العالمي الحديث «10» حركات التجديد في المسرح العالمي الحديث «9»
فكرة المسرح الحر
د. محمد أبو بكر حميد

شهدت أوروبا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تغيرات جديدة ومؤثرة في المسرح كان أهمها ظهور الدراما الحديثة التي تميزت بالتناول الواقعي، واتجاه كتاب المسرح إلى المشكلات الاجتماعية للطبقة الوسطى والغفيرة معبرة عن مرحلة التحول التي تمر بها أوروبا إلى المجتمع الصناعي والأنظمة السياسية الجديدة.
ومع ذلك فإن أعمال الدراما الحديثة لم تلق رواجاً كبيراً في حينها وخاصة مسرحيات هنريك إبسن الجريئة، وكان لابد لهذا الاتجاه أن يشق طريقه بصعوبة حيث كانت هذه الأعمال مرفوضة من معظم المسارح التقليدية. وكان لابد من وجود مسرح خاص وطرق جديدة في الإخراج والعرض تتناسب مع هذه الأعمال الجادة والهادفة التي بدأت تظهر في العواصم الأوروبية ولكن المسارح التقليدية لم تستطع تقديمها بصورة تعكس الروح الجديدة التي ظهرت بها.
تجربة أنطوان
ومن هنا كان لابد من ظهور فكرة «المسرح المستقل» Independent Theatre أو «المسرح الجاد» كما اشتهر بالفرنسية «Theatre Libre» ولكن ما هو المسرح الحر وكيف جاءت فكرته؟
لقد ارتبطت فكرة المسرح الحر بشخصية الممثل والمخرج الفرنسي أندريه انطوان «Andre Antoine» «1858 1943»م الذي بدأ حياته متنقلاً بين مسارح الهواة في باريس إلى أن ترأس فرقة سيركل لي جلوا Cercle le Ganlois سنة 1883م وهي فرقة هواة تقدم عروضها في صالة فقيرة لأسر الأعضاء والأصدقاء والجيران فأراد أنطوان أن يخرج بها من دائرة العروض التقليدية إلى استكتاب الأدباء الشباب وإتاحة الفرص لمواهبهم بالظهور فاختلف مع إدارة الفرقة وانفصل عنها مؤسسا فرقة هواة جديدة اطلق عليها اسم «المسرح الحر» ولم يعش «المسرح الحر» إلا تسع سنوات فقط من 1887 إلى 1896 إلا أنها أحدثت أثراً في تاريخ المسرح الأوروبي كله.
لقد أوجد انطوان بالمسرح الحر فكرة أن هناك مسرحاً خاصاً لا يقدم أعماله للعامة بل يقدم عروضاً متميزة فنياً ومعنوياً لفئة خاصة من الناس، وعليه فقد ألغى شباك التذاكر وأصبح الدخول فيه للمشتركين والمدعوين من رجال الأدب والفكر والمجتمع وكان بهذا إلى جانب تحقيق فكرة المسرح المتميز يزيد من الدخل المالي لمسرحه.
وهكذا أصبحت فكرة المسرح تدخل تحت باب المؤسسات الخاصة التي تفتح فقط للمشتركين والأعضاء وبالتالي لا يخضع المسرح الحر للوائح المسارح العامة.
ومن هنا خدم المسرح الحر أعمال الأدباء الناشئين وأتاح لهم فرص اختيار مواهبهم أمام جمهور خاص من المثقفين كما أتيح العرض للمسرحيات الواقعية والطبيعية التي بدأت في الظهور ولم يكن الذوق الأوروبي العام في أوروبا يتقبلها في ذلك الوقت.
ولقد بدأ انطوان مسرحا صغيراً لا يزيد عن 343 مقعداً وفي أوج اتساعه لم يزد عن 800 مقعد، ولهذا ظل المسرح الحر من مختلف بلدان العالم المسرح الخاص المحدود المقاعد الذي يحرص على الكيف قبل الكم.
ولقد حرص انطوان على الإتقان في تقديم عروضه وتراكمت الديون عليه فلم يكن دخله يغطي تكاليف عروضه المسرحية فاستقال من المسرح سنة 1894 بعد أن زادت ديونه عن مائة ألف فرانك واستمر المسرح من بعده مثقلاً بوطأة الديون حتى أغلق سنة 1896م.
جوانب إيجابية
المهم أن الأثر الذي أحدثه أنطوان والمسرح الحر قد تجاوز فرنسا إلى البلدان الأوروبية المجاورة التي سافرت إليها فرقته أو انتقلت إليها فكرته. ويحدد النقاد الغربيون أثر أنطوان في ثلاثة محاور الأول من خلال فكرة المسرح الحر نفسها والثاني يتمثل في منهج العروض التي قدمها والثالث في نوع الكتاب والمسرحيات التي أنتجها. ولقد وجدت المسرحيات الطبيعية والواقعية متنفساً لها في هذا المسرح حيث كان انطوان نفسه حيث تلاميذ المدرسة الجديدة، وكان اميل زولا من مقدمة الذين شجعوا المسرح الحر ووجهوا إليه أنظار النقاد والأدباء.
وما إن حلت بداية القرن العشرين حتى كان واضحاً أن فكرة المسرح الحر قد أصبحت في فرنسا وغيرها وسيلة لإخراج وتجريب الاتجاهات الجديدة في المسرح.
فلقد استفاد انطوان من تجارب من سبقوه واختار منها جميعاً ما يتناسب مع إخراج المسرحيات الطبيعية التي تحتاج إلى مناظر حقيقية على خشبة المسرح واعتبر النقاد ذلك تحقيقا للنقلة من الواقعية الرومانسية إلى الطبيعية.
وليحل معضلة النص المسرحي الطبيعي اتجه انطوان لإعداد أعمال مسرحه من بعض النصوص القصصية وكان أهمها قصص زولا ومسرحيات المشاهير سترندبرج وتولستوي وتورجنيف وإبسن بل امتدت يده الجريئة إلى تطويع بعض الأعمال التي لا تمت إلى المذهب الطبيعي بصلة مثل أعمال شكسبير وموليير. وكان انطوان بهذا التنوع يخرج بالطبيعية من دائرتها المغلقة على أعمال بمواصفات لا تكاد توجد وإن كان يحاول أن يضع ذلك كله في منظور «المسرح شريحة من الحياة» وهو شعار زولا الشهير في فهم المسرح الطبيعي.
ولعل من أهم ما يذكر لانطوان في فن الإخراج المسرحي هو احترامه لحق المؤلف وتأكيده في نفس الوقت على أن «الإبداع» من مهمات المخرج في تفسير نص المؤلف وذلك من خلال ربط النص المسرحي وتفسيره في ضوء الواقع الاجتماعي الذي يتم فيه إخراج المسرحية، وقد حدد هذا الاتجاه بقوله: «هناك وظيفتان أساسيتان في عمل المخرج الأولى الوظيفة التشكيلية وهي المناظر والأزياء والإضاءة وغيرها. والثانية هي الحركة الداخلية ونعني بها الاجتهاد في الكشف عن مكنونات النص المسرحي واستنباط أسراره النفسية وأغواره الفلسفية وذلك من خلال توجه المخرج لحركة الممثل بصورة تجعلها تعكس وتجسد المعاني الكامنة وراء الكلمات».
وفي إطار العمل التمثيلي دعا انطوان إلى العمل الجماعي وألغى ظاهرة «النجومية» في «المسرح الحر» مؤكداً بأن المسرح والتمثيل نتاج لمجموعة من الجهود لا جهد واحد ويهدف لإبراز «فكرة» لا «شخصية» وأصبح لزاماً على الممثل عنده أن يدرس النص إلى جانب استيعاب كافة عناصر العرض المسرحي.
الأثر السيئ للطبيعية
أما في المنظر المسرحي فقد وقع انطوان في أخطاء الجانب «الحرفي» في فهم الواقعية عند الطبيعيين، بل كان عمله للأسف يمثل الجانب التطبيقي لها. فقد حرص في معظم أعماله على إبراز أثر «البيئة» في سلوك الشخصية من خلال النقل الآلي من الواقع وقد جعله هذا الفهم يصر على تغيير المنظر المسرحي في كل مسرحية ويحدد مقدماً موقع «الحائط الرابع» ليتصرف الممثل كما لو كان في واقع الحياة تطبيقاً لنظرية زولا، وهو الأمر الذي جعله مرة يعرض «شريحة لحم تقطر دماً» على خشبة المسرح وأن ينقل مكتب تلميذ بأكمله وبكل محتوياته إلى خشبة المسرح دون أية إضافات جمالية.
ونحو تحقيق الواقعية في الإضاءة من وجهة نظر الطبيعية عمل انطوان على إلغاء الإضاءة الأمامية وحاول أن يعكس إضاءة الشمس والقمر. وفي التمثيل ألغى التمرينات الصوتية للممثل وطالب أن يتحدث الممثل بطريقة طبيعية كما لو كان من واقع الحياة دون أي اعتبار للسامعين وأطلق شعاره بأن المسرح «حياة» لا «تمثيل».
أما موقفه من المشاهد أو المتفرج فقد دعا إلى أن المشاهد في المسرح الطبيعي الواقعي يجب أن ينسى أنه في «المسرح» ويضع في اعتباره أنه يشاهد قطاعاً حياً للحياة وليحقق هذا دعا كل من الممثلين والمشاهدين إلى أن يتجاهل كل وجود الآخر لأن مقدمة المسرح المفتوحة وهي مكان الستار يجب أن تكون في خيال كل من المشاهدين والممثلين حائطاً رابعاً من خلال سيادة الظلام الدامس في القاعة!!
المسرح والواقع
والحقيقة رغم كل ما حققه انطوان من خدمة للمسرح إلا أن وقوعه فريسة لأفكار زولا وتبنيه لفهم «الحرفي» للواقع وهو ما سمي بالطبيعية قد حال بينه وبين تحقيق ما كان ينبغي أن يحققه. لقد حاول الطبيعيون تحقيق الواقعية في الفن المسرحي بطرق غير واقعية وغير طبيعية فمن المعروف أن «الفن» غير «الحياة»، فالفن الحقيقي إعادة صياغة للحياة وإضافة إليها في نفس الوقت، والعمل الفني الهادف يحاول تقديم الحياة والواقع من وجهة نظر معينة هي وجهة نظر الكاتب التي يفترض أن تحمل رسالة أما نقل الواقع نقلاً حرفياً من الشارع إلى خشبة المسرح كما فعل الطبيعيون لا يقدم أية إضافة إلى ذهن المشاهد إن لم تتم إعادة صياغة هذا الواقع بشكل يحدث أثراً في الجمهور.
إن إحساس جمهور ما بواقعية العمل الفني لا تأتي من خلال نقل الواقع المادي فحسب بل تأتي من خلال طريقة عرض هذا الواقع وتقديم وجهة نظر من خلاله، وهو الأمر الذي لم يدركه كل من زولا وانطوان ولكن حققه من جاء بعدهم من الواقعيين والمؤمنين بالإصلاح الاجتماعي من خلال الأدب والفن.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved