تترى وفود الحجيج براً وبحراً وجواً من بقاع الأرض الى مكة المكرمة والمدينة المنورة، مروراً بمدن المملكة الأخرى التي تقع في طريق القوافل، ونرى الحجيج ينعمون بما توفره الدولة لهم في كل موقع من خدمات فائقة، حتى أن المسلم الذي يعاود أداء هذه الفريضة بعد بضع سنوات يقف مدهوشاً أمام التطوير الكبير الذي يراه في الخدمات المتوفرة للحجيج، ومن أهمها توسيعات الحرمين الشريفين وتطوير الخدمات فيهما، وخدمات النقل والمواصلات من طرق وموانىء جوية وبحرية، وتنمية الخدمات الصحية، وخدمات القطاع الخاص وتشجيعها لمواجهة التزايد العددي في مواسم الحج والعمرة، وترقية خدمات الإسكان والإعاشة، فالدولة حريصة على ان يؤدي المسلم فريضته مكرما منعما، بل إنها ترى ذلك واجباً حتمياً دونه كل واجب، حيث اختصها الخالق جل وعلا بهذا الشرف وذاك الفضل، وهي في سبيل ذلك لا تألو جهدا ولا توفر مالاً في اداء المهمة، ولعل التقرير الذي اصدرته رئاسة الحرمين الشريفين في مناسبة مرور عشرين عاما على ولاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، بما يرصده من المشروعات العملاقة التي جرى تنفيذها في عهده حفظه الله يقوم دليلاً على ذلك، بما جعل العالم الإسلامي كله يشهد لهذا العهد الزاهر بأن ما تم إنجازه في المناسك والمشاعر المقدسة خلال هذا العهد يفوق ما تم إنجازه من قبل مجتمعاً، وبذلك تكون الدولة قد أوفت اداء واجبها خير أداء.
لكن الحاج لا يتعامل فقط مع الدولة ومنشآتها، بل يتعامل مع مؤسسات حكومية واخرى أهلية، بل وايضاً مع احاد المواطنين، فيما يلزمه من احتياجات يومية، مع صاحب التاكسي والمطعم، والبقالة، والإسكان، وخلافه، وواجبنا الديني والاجتماعي يدفعنا الى انتهاج الشفافية في الكشف عن فئة قليلة قد تسيء بفعلها إلى المجموع، هذه الفئة مواطنا أو مؤسسة أو شركة تسعى لكسب مكثف وسريع بحجة واهية لا ترقى إلى مستوى المشروعية ولا يقوم عليها تبرير مقنع.
حكى لي صديق أنه خرج بوالدته التي تعدت الثمانين من عمرها من الحرم المكي بعد طواف الإفاضة، يلتمس مواصلة إلى شارع المنصور حيث كان قد أوقف سيارته، وبعد انتظار طويل وسط الجموع الغفيرة، توقفت سيارة (خصوصي) يقودها شاب في العشرينات رضي أن يحمل الصديق ووالدته ولكن مقابل 600 ستمائة ريال! تصوروا هذا المبلغ أجرة مشوار يقاس بالأمتار لا بالأكيال ولا بالأميال.
قال الصديق للشاب: سأدفع لك مرغما يا ولدي، ولكن هل ترى ذلك عدلاً؟ قال الشاب: يا والد ألا ترى أن النمل يختزن من كد الصيف غذاء للشتاء الذي يتعذر على النمل الخروج أثناءه لطلب الرزق؟ وما أشبهنا بالنمل ونحن نرقب أيام الموسم لنعيش من ريعها العام كله، وقد فتر حماس صديقي بعد هذا التبرير (الممجوج) عن استكمال الحوار مع ذلك الشاب واكتفى بانطباعه الداخلي عن استغلال يجري في البلد الحرام والشهر الحرام لمسلم بار بوالدته!
وإني أناشد تلك القلة القليلة ممن يغالون في أسعارهم للحجاج إلى درجة الابتزاز أن يتوقفوا عن هذا النهج الكريه والسعي الحثيث نحو الكسب المكثف والسريع بحجة انتهاز الفرص، ولو على حساب القيم الدينية والاجتماعية التي يحيا بها مجتمعنا الفاضل، لأن أفعالهم تلك وإن تك من التفاهة بمكان فإن سلبيتها لا تقتصر على أشخاصهم فحسب، بل إنها لتطول المجتمع بأسره، وهذا الغبن الذي يقع على المجتمع بفعل قلة من أفراده تقارب الندرة، يقع إثمه على أولئك الأفراد الذين تسول لهم أنفسهم تجنيب عواطفهم الدينية وتحجيم مشاعرهم الإنسانية، وهم ينتمون إلى مجتمع مسلم القول والفعل، وشرائع الإسلام المطهرة تدعو وتحث على حسن وفادة ضيوف البشر، فما بالك بضيوف الرحمن!!
|