شعرت بالخدر من الدوزان ومن الدندنات والإصغاء الحذر. عرفت الأغنية التي سوف يصدح بها. فأغنية «يا ابو وجنة حمراء» كانت كرته لدخول نادي الكبار. صاحت الجماهير. رفع رأسه عن العود وألقى عليهم نظرة حب وتعبير امتنان. وعاد مرة أخرى إلى الدوزان. ثم عكف جذعه النحيل صوب الفرقة وأعطاها إشارة البدء. ردحت الفرقة وتناغمت الكمانات مع صوت الناي مع ضربات الإيقاع الصاخب على خلفية همسات العود الذي يتقنه فناننا ببراعة. شاعت البهجة وانتشر السرور و بدأت الصفقات المنتظمة وكأننا في ملعب كورة. أليسوا جماهير كورة في النهاية. مضى فناننا في مجاملته للجماهير والتفت على الفرقة مرة أخرى ليؤجل البدء في الأغنية بسبب المقاطعات. فعادت الفرقة إلى عزف المقدمة من جديد. المشكلة أنه كان في مقدمة الأغنية مقطع صغير يبرز فيه دور الإيقاع بشكل قوي. وهذا بحد ذاته كاف لتهييج الجماهير لأن معظمهم كما بدا لي قادمون من خلفيات الزيران والسامري. فما إن يخبط المروس مسفر على الطبل حتى ينفجر الزعيق وتدوي جنبات المبنى وينتفض شارع الخزان عن بكرة أبيه. التفت مرة أخرى على الفرقة وواضح أنه طلب منهم شيئاً لم أتبينه. يبدو أن الجماهير فهمت الإعادات الكثيرة بطريقة خاطئة. ربما قدرت أن الفنان يجاملهم بالإعادة فازداد صراخهم. لم أعد أحتاج لمراقبة أظافر قدميه الطويلة واهتزازات رجله لأعرف أن مشكلة ما سوف تحدث لأني بدأت أرى أنه فقد القدرة على الابتسام. يعض على براطمه كأنه يتوعد أو كأنه يحبس شيئا في بطنه من مسهل تناوله هذا المساء. اتضح لي أن هناك صراعاً خفيا بين الفنان وبين الفرقة. وبعد أربع أو خمس إعادات صدح صوت فناننا وصرخت الجماهير تحييه. فجأة دون مقدمة كتم فناننا سيل الكلمات المتدفق من فمه وأعاد رأسه إلى العود كأنه يدوزنه. في الوقت الذي أعادته فيه الفرقة المقدمة مرة أخرى. أخيراً فقدت الجماهير شغفها بالمقدمة بعد أن أعيدت مرات كثيرة فصمتت هذه المرة. لم تحيي حتى المروس مسفر. شعر فناننا أنه الآن في مأمن من إعادة المقدمة مرة أخرى. فرفع رأسه وقرب خشته من المايكروفون وفي اللحظة التي كان سيطلق فيها الكلمة الأولى فجأة أعادت الفرقة المقدمة من جديد.
لا أعرف كم من الجماهير عرف أن هناك مؤامرة من الفرقة. لا يمكن أن أكون أنا الوحيد الذي أحس بذلك. فما يجري الآن هو امتداد لعلاقة فناننا مع العالم. رغم أنه بطبعه طيب وحبيب ومتسامح إلا أن خصومه لا يعدون ولا يحصون بسبب قبضته الفولاذية التي يلجأ إليها لفض المنازعات. لا يمكن تخيل الموقف الذي يقفه فناننا. فهذه الحفلة هي واحدة من حفلاته الأولى التي يلتقي فيها مع جماهيره وجها لوجه. وأي فشل سوف ينعكس على مسيرته الإبداعية. فالفن والرزق مواجهة مباشرة مع الجماهير. فالاسطوانات تأتي تالية للنجاح في الحفلات والعروس. وهذه الفرقة كما هو واضح قررت تدميره. فالتفت مرة أخرى عليها بتصميم من لا يريد أي تسوية أو مصالحة فكبرياؤه لا تسمح له بالتنازل ليخرج من هذا الفخ ثم يعالج القضية برمتها لاحقاً.
فقدت الجماهير صبرها واهتمامها ورأت أن هناك خللا يجب معالجته قبل استئناف الحفل. فالتفت كل مشجع إلى زميله أو جاره ودخل معه في نقاش حامي عن الدوري. فتوقف الغناء نهائياً واستدار فناننا إلى الفرقة وهو في غاية الغضب. وفي المقابل لا يبدو على أعضاء الفرقة أي توتر. تلاحظ الابتسامات تملأ الوجوه. وكل واحد يسار صاحبه وكأن شيئاً لم يحدث. لم أسمع ما قاله الفنان لأعضاء الفرقة بسبب الضجة وبعدي عن مجريات الأمور فركضت واندسست داخل المنصة. ووقفت خلف الفرقة تماما كأني أحد منهم. وأصبحت مرة أخرى في مواجهة الفنان الغاضب. فسمعت الفنان يقول: من هو الحمار اللي يسوي كذا؟؟
فوجئت بالعبارة فوجئت أكثر بأن كلمة حمار هي جزء من قاموس الفنانين.. لم يبد أي من أعضاء الفرقة أي ردة فعل. كأن الأمر لا يعنيهم. فقال: ما فيكم واحد رجال؟ ما فيكم واحد كفو يواجه الرجال؟ من الواضح أنه يريد أن ينتقم. ولا يمكن أن ينتقم من عشرة أشخاص دفعة واحدة. يرد واحد من أعضاء الفرقة يقدم نفسه ككبش فداء. وأعضاء الفرقة تعرف هذا حق المعرفة. لم يجد من يتبرع ليبرد كبده فيه فأعاد وجهه إلى الجماهير بحثا عن المصالحة الزائفة. ولكنه فجأة سمع أحدهم يضع لسانه بين شفتيه ويطلق أصوات مقززة. فعاد مرة أخرى إلى الفرقة وقد أخذ منه الغضب كل مأخذ. وقال: من هو ها اللي يصدر ها الأصوات القذرة. لم يبد أي من أعضاء الفرقة أي ردة فعل وكأن الأمر لا يعنيهم. فقال: هذه الأصوات ما يصدرها إلا ناس من أمثالكم خوافين ذرقان. حاول استفزازهم بكل العبارات الجارحة دون جدوى. لم يجد من يرد عليه. ورغم أنه ينتفض من الغضب كان الجمهور على باله. فعاد إلى الجماهير ورفع يديه محيي وقال بصوت واحد في ضربة معلم ذكية: يعيش فريق «...» فهو يعرف أن معظم الجماهير هنا هم جماهير «...» وقرر تخديرهم بعبارات المديح المنافقة. حتى يسوي أمره مع الفرقة. فزعقت الجماهير تحييه وتطالبه بحب وإخلاص أن يعود إلى الغناء فوعدهم بذلك وعاد إلى الفرقة بدعم جماهيري واضح. فتناول أعضاء الفرقة آلاتهم إيذاناً بالعودة مرة أخرى إلى العمل فاطمأن فناننا إلى حسن تصرفه الأخير حيث كسب الجماهير إلى صفه ولكن وبشكل مفاجئ عزفت الفرقة مقدمة لأغنية أخرى ليست من أغاني فناننا. فالتفت كالثور الهائج وقال:
نتابع بعد غد الأربعاء
فاكس 4702164
|