Monday 27th January,2003 11078العدد الأثنين 24 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

استراحة داخل صومعة الفكر استراحة داخل صومعة الفكر

قبضنا على الجمر
شهاب غانم
65 صفحة من القطع الصغير.
«قبضنا على الجمر.. انه الجلد والمصابرة والصبر.. انها المعاناة التي لا بد من تحملها دون ان يفوه فوك بكلمة آه.. حتى ولو كانت في حكم المتاح..
ولكن من يقبض على جمره المتقد بالنار ويصبر؟ قبلنا سألوا عن الصبر نثرا. وشعرا مغنى ليشتروه فما وجدوه..


«يا عطارين دلوني
الصبر فين اراضيه
ولو طلبتوا عيوني
خدوها بس الاقيه
يا عطارين دلوني
الصبر فين اراضيه»

يبدو ان البحث عنه صعب لأنه دون عنوان.. وان ثمنه ان وجد اصعب لأنه باهظ الثمن.. لعل شاعرنا شهاب غانم قد جدَّ ووجد.. وعض على ما وجد بالنواجذ مرغما لا بطلا.. لنكتشف معه جمره او قيظه اللاهب.. من أي موقد جاء؟ وإلى أي مرقد وصل..؟
لم يترك لمتتبع شعره فرصة للتساؤل.. بل عاجله بالإجابة أمام أول بوابة.. وعند أول لقاء.. انه يتوجع لمعاناة امته.. متوشحا بالمصابرة والصبر..


«سماؤك مهما خططوا وتآمروا
ستعلو بها عبر الدهور المنابرُ
سماؤك يا دين الهدى رغم كيدهم
سيغمرها نور من الله باهرُ».

لنقل معه «آمين.. يا رب.. ولكن اين الصبر الذي هو احر من الجمر؟


«فصبرا سراييفو وقد اطبق الدجى
فحتما له في مطلع الفجر آخرُ
وصبرا سراييفو فهل دام عندكم
للينين أوقات ودامت عساكر
وصبرا سراييفو لكم قد تحطمت
على صخرة الإسلام قدما خناجر

هذا هو الصبر الذي يستحث به عاصمة البوسنة والهرسك وهي تواجه الغزوة التترية الصربية بما تملك من قليل العتاد والسلاح متذرعة بصلابة الإيمان.. متمنطقة بروح الفداء..
وفجأة يأخذنا الى مسرح اللامعقول لنشاهد فصلا من فصوله وما اكثرها.. وما اكثر المغرمين بها وقد اعطو العقولهم اجازات مفتوحة..
«يخرج غول الجوع من الأطلال
يلتهم خدود الأطفال
يلتهم صدور الناس يمينا وشمالا
في ارض الصومال
ينقرض الاطفال
ينقرض الشعب نساء ورجالا
في وطن الأهوال..
لا يفلت من مخلب غول الجوع سوى الابطال»!.
ولكن اين البطولة يا صديقي ان لم تكن بطولة القبلية والعشائرية الموغلة في عصبيتها وساديتها وتخمتها على حساب الجياع المشردين التائهين على وجوههم بحثا عن طوق سلام يحميهم من أتون النار المتوقدة التي لا ترحم..


في هذي الارض المنسية
من أوطان العرب الاقحاح
ينقلب الناس الى اشباح
وهياكل عظم بشرية

وليت شاعرنا اعاد صياغة شطره الاخير على هذا النحو «هياكل بشر عظمية» كان يتحدث عن الحرب المنسية وتداعياتها النفسية بروح المقاتل الذي يمتشق سلاح الحرب ويجيد التصويب واختراق الهدف..
في رسالته العاجلة الى المتصارعين المتقاتلين على أرض افغانستان بعد تحريرها صرخة:
«لا تقتتلوا
هل في خاتمة الملحمة يُجن البطل؟!
وتنتحر المثل؟!
يا من مزقتم ملحمة الشيطان
ووقفتم صفاً مرصوصاً كالبنيان
احيانا في اعماق الوديان
احيانا في رأس قنان
تتحدون صواريخ الطغيان
في ماذا تقتتلون الآن»..؟
وعلى ماذا تقتتلون الآن يا أهل افغانستان؟ اسئلة مستنكرة تطرح في زمن اللامعقول لعلها تعقل!
حشرجات المنية مخيفة.. وحشرجة شاعرنا أكثر خوفاً وخشية:


من ينفخ الروح في جثة؟
مزقت ألف شلو وشلو!
في جنون. وغدر. وزهو
لا تقولوا بأن التي مزقتها رماح الاعادي!!

إذاً من الذي مزقها اشلاء مبعثرة؟! لقد مزقت نفسها.. انها الماشية التي تستلذ العذاب.. ويتساءل:
«من يمسح الآه؟
من يجمع الشلو. الشلو؟
من ينفخ الروح غير الاله»
نهاية يقينية إيمانية انتهت بها مأساة حشرجية.. وللحجارة الرمز للاستبسال مكان رحب في ديوانه «للصغار والحجارة» و«موسم الحجارة» و«خطاب مفتوح الى ثورة الحجارة» استدل ببعض أبياتها:
«استمري..
واقضّي مضجع الغاصب شهرا بعد شهر
واشدخي رأسا عهدناه مدى الأزمان مستودع احقاد ومكر
انت لا غيرك من ثار ولم يرضخ لإذلال وقهر»
صورة موجهة بمجالات اللوحة الشعرية المقاومة التي تعبر عن قدرة في رسم الخطوط.. او في نسج الخيوط المتوهجة.. والمتموجة في نسيجها..
«على ضفاف النيل» صدح وغنى عشقاً، والى اخيه الذي جمعته به الشهب توهجا وبريقا نمر مرور الكرام ونقف أمام لحظة تقهقر غير معتاد.. وغير منتظر..
«في زمان الجدود كم عز شاعر
واعتلى هامة العلا والمفاخر
كان في حومة القبيلة ان اعلن
ميلاده ترن المزاهر.
والآن لم تعد الصورة كما كانت.. ولا القبيلة التي كان صوتها اشد من السوط.. وامضى من السيف الباتر
«ولقد صار عندنا كل ثرثار
يسمى بلا حياء شاعر»!..
هكذا وبهذا الحكم القاطع قفل قصيدته القصيرة لانه لا يحب الثرثرة. ولا يهوى التقهقر..
ومع استرحام كانت له وقفة اعتراف بقصور الفهم وهو يرسم في ثنايا ابياته اخيلة لمشاعره التي وصفها بالخرابيط:
«شعر الخرابيط اني جئت ملتجئا
اليك منك وفي تقليدك الخرف
على تضاريس وجه الموت اغنية
والليل شمس لديها الصبح يرتجف»
تداخلات ومداخلات شعورية ولا شعورية افضت به الى تساؤل يكفي عن كل تساؤل:
«شعر الخرابيط هل زالت مشاكلنا
حتى يحق لنا الإرغاء والترف
رحماك يا نفط كم انشأت من صحف
وكم يفيض على صفحاتها القرف»
لا أدري لماذا يهمل شاعرنا علامات الاستفهام والتعجب في قصائده، هل ان بينه وبينها خصومة؟!
«زمن العجائب» اختصره في أبيات خمسة اهم سماته وصفاته بلاهة وتفاهة وسفاهة وثعالب ماكرة وجنون بكل اشكاله وألوانه وقوالبه.. انه يهزأ منه ويضحك منه في سخرية دونها البكاء..
فاضحك لأنك لو بكيتَ لما قدرت على المصائب».
ولأن للشاعر اذنا لاقطة لا تخطئ السماع انصت اليهم كي يسمع ما يقولون ويرون لنا:
عن حمامة السلام يتحدثون.. وعن السلام نفسه ايضا يتحدثون ومن اجل تحقيقه لا بد من ترييش السهام.. والنهاية اكوام من الريش:
«وقربها اهرام
من جثث الحمام
حمام ذلك السلام»!
ومن رمز السلام الذي اغتيل وتناثر ريشه يذهب الى لعبة الكراسي في حوار بين اب وابن.. بل في لحظة يرجعها الاب على مسامع ولده الصغير يسرد عليه قصة الأمس يوم كان طفلا له عيد واعراس وعطلة اسبوع. وأيام تمر في حبور.. مقارنة بالحاضر:
«واليوم والغضون في وجوهنا تغور
وقد نسينا نكهة السرور
يدور كل واحد بذاته يدور
كأنه مسعور»
تشخيص رائع لطباع الأمس وطبيعة اليوم.. وشتان ما بين الاثنين، ولكي تكتمل صورة السماع في لعبة الكراسي يتحدث عن الاناث:
«سمعته في سهرة يقول:
ما أجمل الحريم
من دونهن العيش كالجحيم
وذات يوم بشرته زوجه بطفلة
فظل وجهه كظيم»..
قصائد كثيرة مليئة بالمعاني المثيرة وددت لو اني اعطيتها حقها من الاستعراض إلا انها لكثرتها لا تتيح المجال فمعذرة إذا ما تجاوزتها «كاريكاتير» تتحدث عن المدير وشاغله الاول والأخير كيف يكسب المال الوفير، و«ديموقراطية من لا ديموقراطية له»، و«الفأر الميكافيلي».. حيث الغاية تبرر الوسيلة.. و«جزيرة الغربان» الموحشة حيث لا انسان. ولا ماء، ولا بلابل، وإنما نعيق يصم الآذان.. انها جزيرة موحشة مليئة بالشؤم و« بلا وكر في الثمانين» و انعتاق و«حتى بدون سانشو» «قصيدة وجد» و«قرب البحيرة» التي يطوف بها ملوحا للبط بكلتا يديه ناثراً اليه الحبّ بدافع الحب.. والصغار من حوله يتمرجحون.. صور جميلة شدته الى ذكرياته الى طفولته في نمازج لذيذ بين صوتها وصوت البط:
«صوتك العذب ينادي في هياج وابتهاج
بابا.. قاقا.. بابا.. قاقا
وصدى لثغتك العذبة تشدو في سرور
بكلام غامض مثل احاديث الطيور..»
ثم تجري في اندفاع بشكل مفاجئ نحو الماء «نحو البط» ويجري خلفها ليسمك بها خشية الغرق.. هكذا بهذه اللوحة الرومانسية شكل صورة من الوجد لطفلته وَجْد..
«صدود» و«لحن» و«فصول العمر» محطات مررت بها دون ان اتوقف خشية فوات الوقت المحدد للمسيرة الشعرية الرائعة.. إلا ان «خواطر الدودة» «استوقفتني.. ماذا عن الدودة وخواطرها؟
يأوي لظلالي رجل مرهق
يغمض جفنيه وينام
يستغرق في الاحلام
ينداح على الكون سكون مطبق
ويلف الكون ظلام..»
ماذا بعد كل هذا؟! يبزغ ضوء الفجر.. وعلى ضوئه تزقزق الطيور فرحة مرحة على هبات النسيم وهي تداعب اوراق الشجر على زخات المطر.. اما هو فصورته مختلفة، الفرحة انسلت من جفنيه بعد ان جفت اوراقه وتعرت. وبعد ان ودعه ظله إلا ان تشبثه بالحياة اعطى له شيئاً من التوازن:
«حين تجف بأغصاني الأوراق
ويودعني ظلي الوارف حتى لا يبقى منه باق
يضرب مني الحطابون الساق
لكني قد اغدو مقعد بستان يحتضن العشاق
او نافذة يشرب منها الاشراق
او تصنع من خشبي الاوراق
فنخط قصائد حب فيها او بعض رسائل اشواق
او أُمسي في مدفأة حطبا للإحراق
فأبث الدفء الدفاق
واحس بأني حتى في لحظة اعدامي مخلوق خلاق»
بهذه الفدائية.. والتضحية ان يكون شيئاً بعد ان ينتهي كل شيء لا من اجله ولكن من اجل سواه.. «الوشوشة» لا ارتاح لها و«بلسم اللحن» احرى منها بالوقفة الخاطفة.. انه يخاطب نفسه الا تموت قبل الموت، ان تظل حية ما دام فيها نبض حياة، اوصاها طرد الهم وقهره.. ثم:
«وانثري كالجناح الحانك الغر
فإذا الجرح بعدها في التئام»
وفي مراثيه بكائيات لا دمع فيها إلا أنها عميقة الشكوى.. رقيقة الحس «دموع على راشد» و«دمعة على يحيى» ثم «قصيدة حمد لله وشكر اشكره عليهما» ومع المحطة الأخيرة لهذه الرحلة الشعرية لشاعر متمكن تملك ناصية مشاعره باجادة وعمق نتوقف معا مع «اشراقة في ليل الغربة» حيث كان لوحده ولم يكن لوحده.. فقد كان الله معه في كل لحظة بُعد وبؤس..
القرآن كان رفيقه ونعم الرفيق..
«معي الله قد كان في كل لحظة بُعد
ويسعف في كل جزربمد
وقد كان قرآنه العذب يمسح دمعة خدي
ويملؤني بالتحدي
ففي هدأة الليل
أرشف آياته بالتراتيل
ابصر في داخلي خفقات القناديل
استاف لفحة عود، وند
وبين الأضالع ينداح شلال نور. وورد
لقد كنت وحدي
وما كنت وحدي
فقد كان ربي معي كل لحظة بُعد
فما يرتضي الله ضيعة عبد»
ارأيتم اروع من هذه الصورة المشحونة بالإيمان واليقين، والثقة التي رسمها يراع شاعرنا شهاب غانم فأحس شكلها ومضمونها؟.
لقد عشت مع ديوانه.. سكنتني الى درجة الانبهار والانصهار.. اعطتني جرعة من الجرأة ان أقول له:
ان شعر الجدود الذي ترن له المزاهر مازال حيا نابضا.. استشرفته من خلال العبارة.. والفكرة.. والصياغة.. واذا كان لدينا ثرثارون يسمون بلا حياء شعراء.. كما اشرت في قصيدتك «تقهقر».. فإن لدينا ايضا شعراء يتملكون قيادة القصيدة الشعرية الموحية بجمالياتها.. ونبض أدواتها وآلياتها.. أنت واحد منهم.
(*) الرياض/ ص.ب 231185 - الرمز 11321

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved