Monday 27th January,2003 11078العدد الأثنين 24 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الرئة الثالثة الرئة الثالثة
شقراء وأبها.. توأما الحب والذكرى !
عبدالرحمن بن محمد السدحان

(1)
سُئلتَ مرةً عبر لقاء أدبي: متى وُلدتَ، وماذا بقيَ في ذهنك من ذكريات الطفولة في مدينة شقراء، فقلت: أمَّا عن مولدي متى كان.. فإن عمري هو ما بقيَ لي من عمر، أمّا ما مضى منه، فقد باتَ في ذمّه الأمس بفرَحه وتَرحه، ونوره وناره، وإشراقه وظلامه، أمّا عن طفولتي، فإنها لم تكن في شقراء ولكن في أبها، لأسباب وحيثيات سيكشف عن بعضها هذا الحديث والذي يليه.
* *
كان لي مع شقراء موعدٌ لم يتحقّق إلاّ في مرحلة لاحقة من حياتي، فقد زرتُها لأول مرة بعد أن بلغتُ من الصِّبا عِتيّاً، وكنت يومئذٍ مرافقاً ل (دليلي السياحي) سيدي المرحوم الوالد طيَّب اللّه ثراه، وكان ذلك ذات خميس في أواخر العقد التاسع بعد الألف وثلاثمائة هجرية.
* *
بدأت الرحلة بزيارة إلى (القصُور) الواقعة خارج مدينة شقراء بنحو كيل أو اثنين، حيث وُلدَ سيدي الوالد رحمه اللّه، و(القصور) كما يسمّيها الأهالي هناك (مجمّع سكني) مفرط في التواضع، بناءً وتجهيزاً، وكان جدي لوالدي رحمهما اللّه ونفرٌ من أهل (القرائن) يقصدونه في الصيف.
* *
ولقد ذُهلتُ حين أراني سيدي الوالد بقايا الغرفة التي شهدت ميلادَه رحمه الله، وقد صادرت عواملُ التعرية معظمَ معَالمها، فلم يبقَ منها سوى أطلال لا تكاد تدركُها العين! ولم أصدّقْ لحظتئذٍ ما سمعتُ، لوْ لم يقسمْ والدي، أنّ تلك المساحة المربّعة من الأرض المفرطة في الصِّغر ضمن أحد (القصور) (غرفةٌ) ضمّته وهو لم يزل في المهد وليداً!
* *
ثم عرج بي (دليلي السياحي) والدي الغالي إلى قرية (القرائن) التي تنقسم إلى شطريْن، يُسمّى أحدُهما (الوقْف) والثاني (غِسْلة)، ويفصل بينهما (شُعيْب) أو وادٍ صغير لا يتجاوزُ عرضُه ثلاثة أمتار، وأخذ سيدي الوالد يمطر سمعي بذكرياته في مرتع صباه (غِسلة)، فيما نحن نعبر (سكة) وندلف إلى أخرى، وكأنّه يشاهد شريطاً سينمائياً، وقد روى لي جزءاً من (الحرب الباردة) التي لم تكن تهدأ لها رُحى بين أطفال القريتين، غِسْله والوقْف، وتحولت تلك (الحرب) عبر سياق السنين إلى ما يشبه (الفلكور) الفكاهي، يطرب لذكره الآن الكبارُ والصغارُ من أهل القريتين !
* *
ثم يتواصل السيرُ مع سيدي الوالد - رحمه الله - عبر (السكك) الضيقة، وكلما مرّ ببيت من البيوت المتلاصقة قال: هنا وُلدَ فلان، وهنا عاشَ فلان، وهنا مات فلان، وكلُّ أولئك كانوا زملاء جِدِّه ولهوه، لعبَ مع بعضهم (الكعابة)، وتزامل مع بعضهم الآخر في أوقات لاحقة عبر مفازات الحياة طلباً للرزق الحلال !
* *
وفجأة، توقف سيدي الوالد رحمه اللّه لحظاتٍ عند باب خشبي عتيق يختزل منظرهُ صفحاتٍ مطويةً من تاريخ غسلة وأهلها، فلما سألتُه: ماذا يعني لك هذا الباب يا أبي حتى تقف عنده؟ فقال وقد ابتلّتْ عيناه بندَى الذكرى: (هذا بيت جدك عبداللّه.. «يا الخبْل»)، فترحّمتُ على جدي، قبل أن يستطرد أبي قائلاً: (خلف هذا الباب «وأنا أبوك») يقع (مقَهْوى) جدك عبداللّه (اللّه يرحمه)، وكان يقصده القريبُ والجارُ والغريبُ بعد صلاة كل فجر، يتناولون معه حبّاتٍ من التمر (القدوع) مع القهوة ثم الحليب المطرّز بالسكر والزنجبيل، وقد يتاح له ما تيسّر من طعام، ثم ينطلقون إلى مسارات العيش في (النخيل) أو التجارة ونحوهما. وكنت (والحديث لم يزل لسيدي الوالد)، (.. أجلس معهم ممسكاً عن الكلام أو أساعد أبي في ممارسة طقوس التكريم لضيوفه).
وهمستُ لسيدي الوالد مبتسماً ونحن نبعد عن مواقع الذكرى: أحسب يا سيدي أنك كنتَ أسعدَ حظاً منّي بطفولتك وبعض صباك، ولكنني في الوقت نفسه، كنتُ أسعدَ حظاً من أطفال (غسلة) و(الوقف)، فقد درأْتُ عن نفسي الأذى من (حرب البسوس) بين أطفال القريتين !
وللحديث صلة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved