المنجز الحضاري الذي حققه العلم عبر المائتي سنة الماضيتين جعل منه كائناً مغروراً متعجرفاً منفصلاً عن محيطه، فظن أنه عبر عضلاته الحديدية سيتحدى القانون الالهي، ويتحرك بشكل قافز على النواميس الكونية، هذا المخلوق المدلل الذي تربى في أحضان فلاسفة التنوير في القرون الماضية، ولوحوا به كترياق الخلاص للبشرية، وأتى بسيفه الناري الذي قضى به على جميع الأيدلوجيات السابقة.
لا أحد يستطيع أن ينكر بأن العلم قد منح البشرية قفزات عالية، وصرع الكثير من الأمراض والسدود، ووقف لمزاج وتحدي الطبيعة فصرعها في كثير من المواقع، ولكن ذلك المارد الذي سيطر على العالم لفترات طويلة ابتداء ينكفئ ويقرض نفسه في نكوص عجيب عن مسيرته الطويلة المجهدة، هو الذي أطلق الإنسان الأبيض في الأصقاع ينشر شروره وأمراضه يسوق الناس عبيداً.
وأدخل البشرية إلى المعمل حيث جعل الخلاص هناك واليقين ينبثق عن أنابيب المختبر وحدها!!!
ويدمر البيئة يقطع الأشجار ويلوث الهواء، وينقل المزيد من مخلوقات الله الجميلة لتصبح وقوداً لآلته الصناعية النهمة.
فالعلم هو الذي صنع الشمال النهم المتخم والجنوب الجائع المريض المنهك.
وهو الذي اخترع قنابل تزيل مدنا بأكملها عن الوجود في أكبر المجازر التي عرفها التاريخ.
والعلم هو الذي لدغ البشر بلوثة التخمة حتى عندما تورموا واكتنزوا لحماً وتطبقوا شحماً أخبرهم بأن هناك حلا يدعى تدبيس المعدة، اقتحم العلم دقة الصنع الالهي وغرب الإنسان عن علاقته المتينة بجسده.
زور رغباته وشهواته وأطلقها من عقالها فهل من مزيد، واحتال على فصول العمر وخصوصية المراحل، وجعل من الفياجرا نافورة الشباب التي تعيد الشيخ إلى صباه.
اعتدى على عمل الخلية، وزعم أن هناك بشراً مستنسخين، وبارك أولاد الشواذ والسحاقيات، وما برح يبحث عن الأسرع إلا بعد الأكبر الأكثر.. ونهم لا يتوقف للمزيد.
ربيب الثورة الصناعية.. وابنها المدلل الذي يزعم بامتلاك الأجوبة كلها ويخترع جميع الحلول.. طبيعة الحياة تثبت فشله ونكوصه وعدم قدرته على مقارعة غموضها وألغازها النائية المستترة.
|