Sunday 26th January,2003 11077العدد الأحد 23 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قراءة في أزمة قديمة ودروس جديدة قراءة في أزمة قديمة ودروس جديدة
من السويس إلى بغداد وبالعكس
روبرت فيسك (*)

كانت هناك مؤامرة سرية ومحاولة احتيال لاستخدام الأمم المتحدة كورقة توت للتغطية على شن حرب لا يتعاطف معها الرأي العام البريطاني مع استخدام عدد من الصحفيين كرجال دعاية سياسية وكذلك إظهار العدو وهو رئيس عربي كان يوصف ذات يوم بأنه صديق الغرب إظهاره في صورة أسوأ مجرمي الحرب العالمية الثانية، أليس هذا واضحا؟، حسنا فقد حدث ذلك منذ نحو نصف قرن تقريبا ولم تكن هذه الحرب بسبب البترول ولكنها كانت بسبب قناة حفرها البشر لتربط بين البحرين الأحمر والمتوسط وهي قناة السويس، وشبح أزمة السويس يطارد الحكومات البريطانية منذ عام 1956 وحتى الآن، فقد ظهرت لرئيسة الوزراء الأسبق مارجريت تاتشر في صورة حرب الفوكلاند مع الأرجنتين عام 1982، وها هي تظهر الآن بين مكاتب وزارة الخارجية ومقر الحكومة في شارع دواننج ستريت بين وزير الخارجية جاك سترو ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير.
العدوان الثلاثي
فقد أسفرت أزمة السويس أو ما يسمى عند العرب بالعدوان الثلاثي عن تدمير المستقبل السياسي لرئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت أنتوني إيدن وأصبحت رمزا لانتهاء عصر الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس بالإضافة إلى مقتل الكثير من المدنيين كلهم من المصريين بالطبع مما ألحق العار بالحلفاء عندما تحول الأمر إلى ارتكاب جرائم حرب.. وقد قامت هذه الحرب على أساس كذبة تقول إن القوات البريطانية والفرنسية سوف تتدخل لتفصل بين الجيشين المصري والإسرائيلي رغم أن القوات البريطانية والفرنسية بدأت ضرب مصر حتى قبل أن يبدأ الغزو الإسرائيلي لمصر، وفي ذلك الوقت أطلق رئيس الحكومة البريطانية على الرئيس المصري جمال عبدالناصر لقب «موسوليني النيل» إشارة إلى الزعيم الإيطالي الفاشيستي موسوليني الذي قاد إيطاليا إلى هزيمة كبيرة في الحرب العالمية الثانية متحالفا مع الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر، ولكن إيدن نفسه كان قد صافح عبد الناصر بحرارة بالغة وتبادل معه تهاني حارة عند توقيع معاهدة جلاء القوات البريطانية عن مصر قبل أزمة السويس بنحو عام تقريبا، وهذا الموقف يذكرنا بلقاء وزير الدفاع الأمريكي الحالي دونالد رامسفيلد مع الرئيس العراقي صدام حسين في بغداد عام 1993 رغم أن الإدارة الأمريكية تطلق عليه حاليا لقب «هتلر بغداد»، وانتهت أزمة السويس بهزيمة القوات البريطانية التي كانت غير مجهزة بصورة صحيحة وتعاملت مع المصريين بصورة عنصرية وارتكبت الكثير من الانتهاكات وعادت هذه القوات تحمل الكثير من جثث الجنود الذين سقطوا أثناء القتال، وقد كانت أزمة السويس معقدة جدا، ولكنها كانت تدور حول قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم والسيطرة على الشركة العالمية لقناة السويس وهو ما يتعارض مع المعاهدات الدولية، وقد كانت البنوك والشركات البريطانية تمتلك استثمارت كبيرة وطويلة الأجل في مصر كما أنها كانت تمتلك 44% من أسهم الشركة العالمية لقناة السويس.
وقد لقي قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس ترحيبا واسعا من جانب الشعب المصري الذي كان غاضبا من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من تمويل مشروع بناء السد العالي في مصر، وقد كانت كلمة السر للسيطرة على الشركة والقناة في وقت واحد هي «ديليسيبس» وهو المهندس الفرنسي الذي قام بحفر هذه القناة عندما كانت مصر جزء من الامبراطورية العثمانية، وعندما نطق الرئيس عبدالناصر بهذه الكلمة أثناء خطاب عام له تذيعه الإذاعة المصرية تحركت قوة مصرية للسيطرة على مكاتب الشركة.
يقول إيدن لكبار مساعديه «انا كنت استمع إلى خطاب عبد الناصر عبر الإذاعة» وكان أحد الأشخاص قد أبلغني أن عبد الناصر استخدم كلمة دليسبيس ككلمة سر أكثر من 13 مرة، وبعد هذه الخطوة من جانب عبد الناصر قال إيدن لمساعديه انه يريد الإطاحة به أي أنه يريد «تغيير نظام الحكم» وهو التعبير الأمريكي الجديد عن نفس الفكرة القديمة، ولكن الجيش البريطاني أبلغه أنه لا يستطيع تنفيذ هذه المهمة وتحرير قناة السويس كما تريد أمريكا تحرير العراق، فقد كان هذا الجيش بعيدا عن التدريبات وسفن الإبحار البحري غير جاهزة.
وقد قال لي أحد رجال المظلات البريطانيين بعد ذلك بثلاثين عاما ان هذه الحقيقة ظهرت واضحة عندما حاولنا النزول على شواطئ مدينة بور سعيد، حيث اكتشفنا مدى تراجع كفاءة واستعداد قواتنا مقارنة بالحرب العالمية الثانية، فقد كانت طائراتنا تسقط حمولتها من القنابل على الأطراف فقط كما كانت عرباتنا الجيب تتحطم حتى قبل أن تنزل مدافعها لدعمنا، لذلك فإن الأيام والأسابيع والشهور التي تلت استيلاء عبدالناصر على قناة السويس كانت مليئة بالأكاذيب البرلمانية والمراوغة والمحاولات المنفصلة لتكوين تحالف دولي فشل أغلبها واجتماعات سرية في منطقة بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس والتي اتفق فيها البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون على ضرورة قيام الجيش الإسرائيلي بغزو مصر ثم تتدخل فرنسا وبريطانيا وتأمر كل من الجيشين المصري والإسرائيلي بالانسحاب بعيدا عن جانبي قناة السويس ثم يتم وضع قوات تدخل بريطانية وفرنسية في منطقة القناة وحول مدينة بور سعيد وأن يطلق على هذه العملية الاسم الرمزي «عملية الجندي المقنع»، وتعرض الرأي العام البريطاني لحملة إعلامية شاركت فيها افتتاحيات الصحف التي هاجمت هؤلاء الذين رفضوا استخدام القوة العسكرية لتسوية هذه الأزمة، فقد كتب رئيس تحرير صحيفة التايمز وليام هيلي، آنذاك، افتتاحية الجريدة موقعة باسمه ليقول فيها «حقيقة أن الشعب البريطاني يريد تجنب استخدام القوة وهو أمر يتفق عليه الجميع بما في ذلك اعضاء الحكومة البريطانية نفسها، ولكننا لا نستطيع القول بهذا لأن الأمر ليس في يدنا ولا توجد خيارات كثيرة أمام هذه الحكومة لتجنب استخدام القوة، والأمم تعيش من خلال القدرة على الدفاع عن مصالحها، لذلك فإن صمت الشعب في هذه الحالة يكون أفضل من توجيه الانتقادات للحكومة»، أما صحيفة «الجارديان» فقالت ان افتتاحية «التايمز» هجوم على هؤلاء الذين يريدون انتقاد قرارات حكومة إيدن.
الحرب ضد العراق
الآن قد يكون من المثير رؤية مثل هذا الجدل العام عندما تقترب الحرب ضد العراق بصورة أكبر، وأن نرى كيف ستؤدي الحكومة البريطانية الآن الوظيفة التي قام بها وليام كلارك السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء الأسبق إيدن في ذلك الوقت.
يقول توني شو في دراسته التاريخية الرائعة «إيدن وازمة السويس ووسائل الإعلام» إن كلارك عمل بتناغم كبير مع صحيفة التايمز، فقد كانت مهمة كلارك هي إقناع الرأي العام البريطاني بسلامة قرار حكومته بخوض الحرب في مصر بدون قرار من الأمم المتحدة وهو نفس الموقف الذي يتجه إليه الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني الحالي توني بلير.
وقد قال إيدن لوليام هيلي إنه يريد من الأمم المتحدة أن تصدر قراراً يدين عبدالناصر حتى يجد مبررا لضربه وهو نفس ما يبحث عنه بوش حاليا بالنسبة للرئيس العراقي صدام حسين، وبالفعل فقد أعادت صحيفة التايمز افتتاحيتها أثناء أزمة السويس مع استبدال كلمة قناة السويس بكلمة العراق تقريبا، فقد قالت التايمز في افتتاحية لها أثناء أزمة السويس «الاعتراض على فكرة اللجوء إلى الأمم المتحدة ينبع من أنها تبدو بالفعل غير مهتمة بتحرير قناة السويس، ومع ذلك يجب التأكيد على أن إعادة السيطرة الدولية على القناة سواء عبر المفاوضات أو بأي وسيلة أخرى يعني أنها ستكون تحت سيطرة الأمم المتحدة وكلما تم ابلاغ الأمم المتحدة بالموقف مبكرا كلما كان ذلك أفضل».
وهاجمت إسرائيل مصر وفي الخامس من نوفمبر هاجمت القوات البريطانية والفرنسية المحمولة على سفن حربية قديمة الشواطئ المصرية قادمة من قبرص غالبا، وفي معركة الجميل تم إبرار 780 جندي مظلات بريطاني 470 جندي مظلات فرنسي بالقرب من جسرين على القناة بمنطقة الرسوة، حاصرت القوات البريطانية مركز الشرطة وأطلقت عليه نيران كثيفة مما أسفر عن استشهاد كل أفراد المركز تقريبا، في مطار الجميل ألقت القوات البريطانية القبض على أحد المقاتلين المصريين، وحاولت القوات البريطانية معرفة أماكن مستودعات أسلحة الجيش المصري من هذا المقاتل.
يقول الصحفي أليكس إيفتفولوس انه عندما دخل مدينة بورسعيد وجد الكثير من جثث المصريين في الشوارع بدون دفن رغم مرور أيام على موتها، وقد كانت الولايات المتحدة هي أكثر من عبر عن غضبه بسبب هذه الممارسات العنصرية وبسبب الحرب ككل، فقد غضب الرئيس الأمريكي داويت إيزنهاور بعد أن اتضح أن العدوان الإسرائيلي على مصر جاء بتنسيق مع كل من بريطانيا وفرنسا وأعلن عن احتفاظ أمريكا بحقها في إدانة هذا الغزو ككل، وكانت رسالته الشهيرة إلى وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس الشهير لنقلها إلى رئيس الوزراء البريطاني إيدن في لندن تقول «مهلا يا فتى» وكانت توضح مدى اقتراب أمريكا من سحب كل دعمها لبريطانيا، وفي الثامن والعشرين من نوفمبر أبلغ وزير الخارجية البريطاني حكومة بلاده أنه كلما سحبت بريطانيا قواتها والقوات الفرنسية من مصر كلما ساعد ذلك بريطانيا في إعادة اكتساب تعاطف أمريكا معها.
وعندما سئل إيدن عن حقيقة المؤامرة الفرنسية الإسرائيلية البريطانية أمام لجنة 1922 قال إيدن نصف الحقيقة حيث قال إنه لم تكن هناك خيارات كثيرة للتعامل مع هذه الأزمة وأن السرية كانت مطلوبة في مثل هذه العملية.
وفي العشرين من نوفمبر عام 1956 كذب أيضا إيدن أمام مجلس العموم البريطاني عندما قال «كنت أريد بالفعل أن أبلغ مجلس العموم بالعملية العسكرية بصورة مسبقة ولكنني لم أكن على علم مسبق بأن إسرائيل ستهاجم مصر، ولكن كان هناك شيء آخر معروف تماما بالنسبة لنا هو وجود احتمال هذا الهجوم، وفي ضوء هذا الاحتمال جرت مناقشات ومحادثات، واعتقد أن ما حدث كان صحيحا تماما واعتقد أن أي شخص يتفق معي على ذلك»، والحقيقة أن إيدن كان مريضا في ذلك الوقت وبدأ يتحدث مع زملائه عن مستقبله كما ذكر دافيد ويستاند في كتابه أمريكا وبريطانيا وازمة السويس.
تحذير لماكميلان
وفي التاسع من يناير عام 1957 قال إيدن لهارولد ماكميلان ان الأطباء حذروه من وجود خطر على حياته إذا ما استمر في وظيفته كرئيس للحكومة، وهذا لم يجعل أمامه مفرا من الاستقالة.
يقول ماكميلان كان من الصعب على نفسي أن أصدق أن هذه هي نهاية الحياة العامة لهذا الرجل الذي كان يعد شابا مقارنة بأعمار السياسيين عموما. ويضيف ماكميلان أنهما امضيا بعض الوقت معا تحدثا خلاله عن الحرب العالمية الأولى، وقد اضطر إيدن بالفعل لتقديم استقالته وهي الاستقالة التي كانت بمثابة إسدال الستار على آخر محاولة بريطانية لتأكيد حقيقة أنها، كما قال سكوت لوكاس، لا تريد أن تعتمد على واشنطن في حماية مصالحها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت بريطانيا في خدمة السياسة الأمريكية، وقد أصبحت السياسة الأمريكية عبارة عن تحرك فردي من أجل الدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط، وقد كان مبدأ إيزنهاور يدعو إلى السيطرة الأمريكية والتي تمارسها أمريكا على العالم كله بالفعل حاليا، وقد خرج ناصر من هذا الحكم بتثبيت دعائم حكمه بصورة غير مسبوقة حتى بعد تعرضه لهزيمة قاسية أمام إسرائيل في حرب يونيو عام 1967، وقد أدت أزمة السويس إلى جذب انتباه العالم في الوقت الذي كانت القوات الروسية تجتاح العاصمة البولندية بودابست وتقضي على ثورتها، وقد تعرض الزعيم العمالي البريطاني في ذلك الوقت هيو جاتيسكيل لعاصفة عاتية بسبب خطابه الذي أذاعه في نوفمبر 1956 ووصف القوات البريطانية التي تحارب في مصر بأنها قوات معتدية.

(*) عن «الاندبندنت» البريطانية
خدمة الجزيرة الصحفية

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved