القرار الذي اتخذته الحكومة الاسرائيلية أوائل الشهر الجاري بوقف جميع العقود المبرمة مع الصين والمتعلقة بصادرات الأسلحة والتجهيزات الأمنية والتكنولوجيات العسكرية.. لم يكن مستبعدا أو مستغربا رغم كافة تداعياته المحتملة.
ويتفق المراقبون والمحللون على أن الرضوخ الاسرائيلي للضغوط الأمريكية لايأتي من فراغ.
فمن حيث المبدأ فان الجانب الاسرائيلي ملتزم بقبول رقابة واشنطن على صادراته العسكرية التي ينتجها باستثمارات وتكنولوجيات أمريكية الى سبع وعشرين دولة تصنفها واشنطن بأنها دول ذات مشاكل ومن بينها الصين..
ومن الناحية الاقتصادية تعد اسرائيل أكبر دولة على مستوى العالم من حيث حجم المساعدات الخارجية الأمريكية التي تحصل عليها والتي تبلغ ثلاث مليارات دولار سنويا منها 8 ،1 مساعدات عسكرية اضافة الى 2 ،1 مساعدات اقتصادية.
ومن الناحية الأمنية فان الولايات المتحدة هي المزود الرئيسي لاسرائيل بالتجهيزات العسكرية وتكنولوجياتها الحساسة فائقة التقدم التزاما من جانبها بالحفاظ على تفوق اسرائيل كأكبر قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط وبعد تزويدها بصواريخ «باتريوت» استثمرت واشنطن ملياري دولار في اقامة مشروع مشترك لتطوير نظام دفاع صاروخي من طراز «السهم» القادر على مواجهة صواريخ «سكود» العراقية..
ومع الحرب المرتقبة ضد العراق وتزايد المخاوف الاسرائيلية من تداعيات تلك الحرب تصبح أكثر احتياجا من الناحية الأمنية لحماية العم سام مهما لوح بيديه وشبح بقدميه.ومن الناحية الدبلوماسية يتعذر على اسرائيل الصمود في صراعها الأزلي المحتدم مع العرب والفلسطينيين بغير التأييد الأمريكي اللامحدود داخل مختلف المحافل الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة بصرف النظر عن كل الأصوات الرافضة والشاجبة والممتعضة.
وباعتماد اسرائيل الكلي على الولايات المتحدة اقتصاديا وأمنيا ودبلوماسيا يصبح من الصعوبة بمكان مجرد التفكير في اغضاب واشنطن حتى لو كان ذلك على حساب علاقات اسرائيل بدول العالم الأخرى بما فيها الصين، انطلاقا من تلك الحقائق وادراكا لها..تعاملت الصين مع القرار الاسرائيلي في هذا الصدد..
فعلى الصعيد الرسمي اكتفت وزارة الخارجية الصينية باصدار بيان أكدت فيه على أنه ليس من حق أية دولة كانت التدخل في مسيرة التعاون التجاري العسكري بين الصين وإسرائيل وعرقلتها على أي نحو.
وعلى الصعيد الاعلامي تناولت الصحف الصينية على مدار الأسابيع الماضية قرار حكومة شارون بعيدا عن القاء أي لوم على الجانب الاسرائيلي بقدر ماحملت الجانب الأمريكي كامل المسؤولية وانعكس ذلك واضحا في جميع المقالات والتعليقات والتقارير الغاضبة التي حفلت بها المطبوعات الصينية على اختلافها وحملت في مجملها عناوين «نقاط الخطأ في السياسة الأمريكية تجاه الصين» و«التشبث الأمريكي المميت بأفكار الحرب الباردة والتدخل التعسفي الأمريكى في شؤون الدول الأخرى مرفوض والسياسات العدائية الأمريكية حيال الصين..
وفي الوقت الذي رفض فيه الجانب الصيني تبريرات المسؤولين الأمريكيين وفي مقدمتهم وزير الخارجية الأمريكية كولين باول لهذا الاجراء على أنه ينطلق من اعتبارات استراتيجية اقليمية محضة تهدف الى ضرورة الحفاظ على التوازنات العسكرية في منطقة مضيق تايوان.. الا أن الجانب الصيني في الوقت نفسه استبعد تماما الرؤية الاسرائيلية التي تعتقد أن التفسير الأمريكي ليس الا ذريعة لاخفاء الهدف الحقيقي والمتمثل في اخراج المؤسسات التجارية الاسرائيلية من السوق الصيني لافساح المجال لدخول المؤسسات الأمريكية الى ذلك السوق الهائل ذي الامكانيات الواعدة والطاقات الكامنة.
ومن جانبها تجزم الصين بأن الاجراء الأمريكي ليس مجرد هدف تجاري مؤقت بل هو مخطط استراتيجي مفضوح ترفض واشنطن في اطاره السماح للصين بالمضي قدما في مسيرتها الرامية للتحول الى دولة كبرى قد تشكل خطرا على تفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على شؤون العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
وفي هذا السياق يقول البروفيسور سو شينغ شيانج الأستاذ بمركز دراسات العلاقات الدولية التابع لجامعة بكينع ان التعقيدات في الشؤون الدولية يجعل من العسير على الولايات المتحدة تسوية الكثير من النزاعات الدولية بغير التعاون مع أطراف رئيسية وفي مقدمتها الصين..
ومع تنامى نفوذ الصين السياسي والاقتصادي يزداد الرعب الأمريكي ويتعاظم القلق من أن تشكل الصين تحديا جديدا لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة ولهذا لاتدخر جهدا في اعاقة تقدم الصين في العديد من المناحي.. العسكرية منها على نحو خاص.
ويمضى البروفيسور سو في تحليله قائلا ان الولايات المتحدة ترغب في توسيع تبادلاتها التجارية مع الصين خاصة في ظل حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد العالمي ويبرز فيها السوق الصيني الكبير لمليار وثلاثمائة مليون نسمة كمخرج وحيد.. لكنها تعمد الى بيع الصين مالم تستطع بيعه داخل الأسواق العالمية من سلع كاسدة كالقمح وفول الصويا والحمضيات وغيرها أما التقنيات المتقدمة والتكنولوجيات العالية فتضع واشنطن القيود وتفرض الاجراءات بدعوى معالجة الخلل الكبير في الميزان التجاري الصيني الأمريكي وذلك على الرغم مما يسببه ذلك الطرح الأمريكي من خسائر فادحة على الاقتصاد الوطني وكبريات الشركات التجارية الأمريكية.
من ناحيته أوضح تشو فينج مراسل صحيفة «تشاينا ديلي» في اسرائيل حقيقة ان هذه ليست المرة الأولى التي تمارس فيها الولايات المتحدة ضغوطا مكثفة على اسرائيل لوقف صادراتها من التكنولوجيات العسكرية للصين فقد أقدمت على ذلك أكثر من مرة وآخرها في صيف عام 2000 عندما أرغمت ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون حكومة باراك آنذاك على الغاء عقد بيع أربع طائرات من طراز «فالكون» مزودة بأجهزة رادار للانذار المبكر مما أحدث توترا بالغا في العلاقات الاسرائيلية الصينية اضطرت اسرائيل على اثره الى دفع مبلغ 350 مليون دولار كتعويضات للصين أملا في العودة بالعلاقات الى مسارها الطبيعي.
وقد أدى الغاء تلك الصفقة الى تكبيد المؤسسات العسكرية الاسرائيلية خسائر فادحة دفعها الى تسريع خطى التعاون العسكري مع الهند وتركيا اللذين رحبا بذلك دون التوقف طويلا عند تداعيات وانعكاسات ذلك على علاقاتهما الأزلية والتقليدية بالدول العربية لكنهما مع ذلك فشلا في احلال محل السوق الصيني الهائل الذي طالما أولته اسرائيل أهمية كبرى وصوبت أنظارها اليه وجاهدت في دخوله ونجحت في تعزيز تواجدها فيه.
يقول تشو ان التعاون العسكري الاسرائيلي الصيني يعود تاريخه الى بداية سبعينيات القرن الماضي أي قبل سنوات عديدة من اقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين في عام 1992 وبعد تلك الخطوة قفز حجم تعاونهما العسكري خلال العقد الماضي الى 5 ،1 مليار دولار أمريكي ودفع باسرائيل الى المركز السادس على القائمة العالمية كأكبر دولة مصدرة للسلاح.
وكشف مراسل صحيفة «تشاينا ديلي» النقاب عن أنه في محاولة مستميتة من الجانب الاسرائيلي للتقليص ماأمكن من تأثيرات ذلك القرار على العلاقات مع الصين.
وأكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الاسرائيلية أن الجانبين يعتزمان التوقيع على عدد من الاتفاقيات خلال النصف الأول من العام الحالي تشمل مجالات اللوجيستيات والفضاء والزراعة.
وبالنسبة للتعاون العسكري الصيني الأمريكي.. فقد استبعدت صحيفة «جلوبال تايمز» قيام ادارة بوش في المستقبل المنظور بالغاء القيود المفروضة على مبيعاتها العسكرية للصين منذ عام 1989 رغم الحاح الجانب الصيني ومطالبته المتكررة بضرورة رفع ذلك الحظر..
في هذا السياق يقول وانج رو شون مراسل الجريدة المقيم في الولايات المتحدة ان الطائرات المروحية من طراز «الصقر الأسود» التي كانت ادارة الرئيس رونالد ريجان قد باعتها للصين أوائل الثمانينات أصبحت معطلة تماما بسبب غياب الصيانة ونقص قطع الغيار ومع ذلك رفض الرئيس بوش الاستجابة للمطلب الصيني برفع الحظر حتى يتمكن من اعادة تشغيل تلك المروحيات معللا ذلك بأن قطع غيار تلك الطائرات أدرجت على قائمة المحظورات.
ويتفق الكثير من المحللين على أن ادارة الرئيس بوش تمثل أكثر الادارات الأمريكية شدة وصرامة في تصدير التقنيات الحساسة للصين انطلاقا من منظور أن الصين تعكس «أخطارا عسكرية كامنة» بقدر ماتعكس «أخطارا اقتصادية كامنة»..
وخلال الأسبوع الماضي أقامت وزارة الخارجية الأمريكية دعاوي قضائية أمام المحكمة الفيدرالية ضد شركتي «بوينج» و«هوجيس» للاشتباه في قيامهما بنقل تقنية للطيران الفضائي الى الصين بصورة غير شرعية طوفي حال ما اذا أصدرت المحكمة الفيدرالية حكما لصالح وزارة الخارجية الأمريكية فان حجم الغرامة التي يتحتم على الشركتين دفعها سيصل الى 60 مليون دولار مع حرمانهما من أي مشاريع لتصدير التكنولوجيا الى الصين لمدة ثلاثة أعوام...
والأمثلة هنا لاتعد ولاتحصى «على حد قول مراسل صحيفة» «جلوبال تايمز» فالعديد من كبريات الشركات الأمريكية مثل «أي.بي.أم» و«هيليوليت باكارد» و«سميك لانتاج الصفائح الرقيقة».. تضررت مصالحها على نحو بالغ بسبب الرقابة الصارمة والتحكم الجائر في الصادرات التكنولوجية لهذه الشركات الى السوق الصيني حتى أن اجمالي عدد الشكاوي التي تلقتها وزارة التجارة الأمريكية خلال العام الماضي وحده بلغت 1246 شكوى.
وأوضح وانج أن نسبة المشاريع الأمريكية المتعلقة بنقل التكنولوجيا الى الصين والتي قوبلت بالرفض من قبل ادارة بوش قد ارتفعت بمعدل 38 بالمائة قياسا بادارة كلينتون فيما انخفضت نسبة المشاريع التي تمت الموافقة عليها بمعدل 22 بالمائة.
(*) بكين أ.ش.أ
|