4/ أيها الإخوة يجب أن نتجاوز الخطاب الخاص الموجه إلى التجمعات الخاصة ذات الطابع الموحد باسم «جماعة»، أو «منهج »أو «حزب»، أو «علاقة» أو نحو ذلك، وليس معنى هذا ضرورة رفض التجمع الذي يقع به خير كثير أو تقتضيه أسباب مختلفة. إن وجود التجمع لا يلزم منه الاقتصار عليه.
ان العالم الغربي- ضمن مشروع «العولمة» - واضح في مخاطبة كل فرد أياً كانت ظروفه وأياً كان واقعه، ونحن أحق بها وأهلها، يجب أن نخاطب إخواننا المسلمين أياً كانت ظروفهم الواقعية في التربية والاخلاق والثقافة، وغير ذلك.
إننا نمضي كثيراً من الوقت والجهد في ترتيب تسابقنا الخاص، وتصنيف بعضنا بعضاً، وهذه فيما أحسب سذاجة يعاني منها كثيرون. نعم! إننا حين نضع الرؤية الخاصة بنا ميزاناً لنفوسنا ولغيرنا، فإننا نكون سذجاً، لأننا نعيش تقابلية غير ممكنة الاستيعاب، ومن هنا كان المفترض أن نخضع جميعاً للإسلام ولحكمه وميزانه، وأن ندرك واقعنا الخاص بشكله البشري المعقول، وأن من غير العدل قصر دين الله ورسالة الإسلام أو حصرها في رؤية أو محاولة خاصة، ولو كانت تتمتع بمشاعر ومقاصد فاضلة، ونيات حسنة، وأهداف نبيلة.
وفي تقديري أن من الاشكاليات اليوم تلخيص الإسلام برؤية يرسمها شخص أو اشخاص ربما لم يصلوا رتبة الفتوى، فضلاً عن الاجتهاد!
أيها الاخوة والاخوات! يفترض ان نتخلص من النظرة الجاهلية لمجتمعاتنا، وأن ندرك ان في مجتمعاتنا خيراً كثيراً، وقابلية للتصحيح، وأنها محل الدعوة والمجاهدة والصبر على التواصي بالبر والتقوى والحق والصبر، وان نهدّئ من الطرح الخاص الذي يرسخ الحدود والفواصل بين فئات الأمة لمصلحة الخطاب العام الذي يعيد الثقة بالأمة الواحدة كما يَسِمُها الله سبحانه وتعالى في كتابه:{إنَّ هّذٌهٌ أٍمَّتٍكٍمً أٍمَّةْ وّاحٌدّةْ وّأّنّا رّبٍَكٍمً فّاعًبٍدٍونٌ}.
من الصعب أن ينقلب الإسلام إلى مفهوم حزبي واحد، أو رؤية لجماعة إسلامية واحدة، فيكون مشروعها بتمام صياغته هو الإسلام أو أرقى رؤية للإسلام.
ان كثيراً من اخواننا قد يعترضون كثيراً بالحقيقة النبوية «الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة» صحيح أنه تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح والسنن والمسانيد أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، لكن هذه الطائفة يجب ان تعرف من منهاج النبوة نفسه أنها الطائفة القائمة بأمر الله، كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم أي القائمة بالإسلام كما جاء من عند الله المتمثل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وهذا يتطلب قدراً من الفقة للإسلام، ومعرفة الحقائق الشرعية على وجهها الصحيح، ولئن كان علماء الأمة وأئمتها الأوائل وضعوا قواعد الاعتقاد، وقواعد الشريعة، فإن صور التطبيق في الحكم على الأحوال الطارئة لايزال بحاجة إلى فقه ورؤية شرعية.
إن إخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الفرقة الناجية لم يكن من أجل ان تتخذ شعاراً يصادر به المسلم اخاه المسلم، أو يجتاح عرضه، وربما دمه احياناً، أو ليكون ذريعة للقطيعة مع الامة التي تحقق لها وصف الإسلام، وان اخلت بكثير من احكامه وواجباته ومقوماته.
لقد كان من أسسه- عليه الصلاة والسلام- «المسلم أخو المسلم»، «كل المسلم على المسلم حرام»، «وكونوا عباد الله إخواناً» وعليه يجب أن ندرك أنها من أسس الفرقة الناجية.
يجب أن نفرق- كما جاءت الشريعة بذلك- بين ثوابت الإسلام، والاجتهاد الخاص الذي يستعمله من هو أهل للاجتهاد، فضلاً عمن هو دون ذلك.
ان الاشكالية تقع في كون بعضنا ينتج رؤية مبنية على جملة من الثوابت الشرعية، مع جملة من الحركة المعرفية الاجتهادية التي تكون- في كثير من الأحيان- هي المنتج للصياغة المنهجية، فيتمثل عند كثيرين ان المخالفة للحركة المنهجية، أو لهذه الرؤية يمثل مخالفة للإسلام، ولهذا يعيش كثيرون روح الجهاد الخاصة في مثل هذه الظروف، وكأن الفرقة الناجية المخبر عنها في الأحاديث النبوية يجب ان تكون مجموعة دعوية خاصة، أو جماعة ذات علاقة واقعية بشرية قائمة وارتباط ذاتي في التعامل. أو كأنه يجب أن تكون- من خلال منهج اجتهادي خاص في التصحيح والتربية والدعوة- وحدها الممثل للفرقة الناجية، وربما حاولنا«عند ظهور من يحاكينا في الرؤية والفهم» إضافة أو ترسيم مسائل اجتهادية جديدة بالطابع الثبوتي لنبقى اصحاب الاختصاص الشرعي الاصطفائي وحدنا، حتى ليغدو التميز عن غيرنا هدفاً نسعى إليه ولو بالإلحاح على بعض الفروع والاحكام، أو حتى الفتاوى الفقهية الخاصة في مسائل يسيرة كصدقة الفطر، أو جلسة الاستراحة، أو استخدام لغة معينة في الفقه والصياغة، مع أن التميز المحمود المشروع انما هو عن غير المسلمين أو عن الفجار، اما المسلم العدل فقد يفضي تقصّد التميز عنه إلى نوع من الشهرة. كان في مقدمة رسالة الإمام ابن تيمية «الواسطية»: «أما بعد: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة..».
وفي المناظرة قال له بعض علماء الفرق المخالفة لهذا المعتقد المفصل: يكون أئمتنا غير ناجين لمخالفتهم هذا المعتقد؟! فقال الإمام ابن تيمية: أنا أقول: كل من اعتقد هذا المعتقد فهو ناج عند الله، لكونه هو المذكور في النصوص الصريحة، ومن خالفه فلا أحكم عليه بعدم النجاة في الآخرة، بل هو وربه، والله لا يعذب إلا من عصى من بعد ما تبين له الهدى.
إننا نؤمن تماماً بعقيدة أهل السنة والجماعة، ونؤمن كذلك بمنهج أهل السنة والجماعة، لكن يجب ان ندرك أن هذه العقيدة هي حقائق شرعية صريحة، وكذلك قواعد المنهج، هي حقائق شرعية صريحة وليس نظراً واجتهاداً تحاوله جماعة أو حركة.
لقد نعى الإمام ابن تيمية كثيراً على الذين يرسمون مذهب السلف بأوجه من نظرهم، واجتهادهم، وذكر أن هذه طريقة مخالفة لطريقة السلف أنفسهم، بل هي من طرق مخالفيهم، وأن طريقة السلف تكون بالتواتر، والاجماع في الحقائق الشرعية المتمثلة في عقيدتهم ومنهجهم. هذه حقيقة علمية يجب أن ندركها. نعم، انك حين تقول عن مقالة أو فعل: انها موافقة لمذهب السلف أو مخالفة له، فيجب ان تكون المقالة أو الفعل موافقة أو مخالفة لأئمة السلف، أو صريح النصوص. ولم يكن من شأن أئمة الإسلام- الصحابة ثم الأئمة بعدهم- ادخال مسائل الخلاف والاجتهاد في الاضافة السلفية، أو عصمة الصحة بأي شعار أو مفهوم، أو حتى إيحاء، ولاشك ان الاختصاص برؤية معينة قد لا يمثل معضلة كبرى، إذا ما ادركنا الاختصاص والمحدودية في هذه الرؤية، وان كنا نفضل ان تكون رؤيتنا اكثر استيعاباً حتى تكون أكثر هداية.
5/ يجب ان نحدد الثوابت بشكل واضح، وان نتجاوز اشكالية الربط بين هذه الثوابت وبين الصور الالحاقية لها التي هي نتاج للاجتهاد والنظر، وان ندرك ان هذا الربط لا يمثل عصمة ضرورية لهذه الالحاقات الاجتهادية. والتخريج على الثوابت اصبح اليوم يمثل معضلة علمية، لقد استعمل الفقهاء في مذاهبهم التخريج الفقهي على القواعد، أو حتى على قول الإمام، وطرأ في المعرفة السلفية المعاصرة عند بعض فضلاء الدعاة التخريج على الثوابت، فأنتجوا فروعاً كثيرة ألحقت في القيمة المبدئية بالثوابت السلفية، وهذا في الغالب هو سبب الانقسام اليوم في الرؤية السلفية، بل وعدم وضوح الاتصال السلفي في عدد من المناهج المنتسبة للسلفية اليوم.
ان السلفية يفترض ألا تكون متجاوزة للهدي الإسلامي، وهذه حقيقة شرعية وعقلية لازمة، ويجب ان يبقى الاصل اصلاً، والخلاف خلافاً، والاجتهاد اجتهاداً.
ولئن كان بعض الاخوة اليوم ينقمون على من يريد ان يحوّل الأصل إلى اجتهاد، فكذلك يقع اللوم على من يحول الاجتهاد والخلاف إلى أصل.
6/ أيها الاخوة يفترض ان تكون الدعوة قادرة على استيعاب كل اشكاليات العالم المعاصر، وليس غريباً ان نكون منقسمين تجاه هذه النظرة قبولاً أو رفضاً، ولكن ربما كان من الخير أن نفكر في سببية انقسامنا أمام وجهات النظر، والاطروحات المقدمة من داخلنا أو خارجنا. ان الاختلاف ينبغي ان يكون مقبولاً، نعم ! لكن ليس من الخطأ ان نعرف سبب اختلافنا، بل هذا هو حقيقة الفهم للخلاف.
يتفق الإسلاميون على رفض المشروع العلماني فكراً أو تطبيقاً مع إدارك أن الرؤية العلمانية تعترف بدائرة مخصصة للدين، ولكنها تفرغ الدوائر الأخرى من الأثر الديني وفي الرؤية الإسلامية:{وّيّكٍونّ الدٌَينٍ كٍلٍَهٍ لٌلَّهٌ}، وهذا الموقف الواضح يمثل رؤية شرعية مشرقة وعمقا إسلامياً، ولكن حينما تتحرك في داخل المشاريع الإسلامية تجد في كثير من الاحوال إشكالية البناء على وفق هذا الموقف، وهنا ربما استعمل كثير من الإسلاميين محاولة جادة للهيمنة الشرعية على الدوائر التي تمثل شكلاً استقلالياً: الاقتصاد، الإعلام، المجتمع وحركته، التربية، النظم، والتعامل، تتمثل في الاقتصار على لغة الحكم على الاشياء، خاصة أحكام الرفض والمنع دون رسم واضح للبديل الشرعي، أو الصياغة الشمولية لهذه الدوائر القائمة التي تزاحم العلمانية عليها لفرض وجودها، وقد نجحت في بعض الاحوال، ومن اسباب فرض العلمانية وجودها أو حتى تأثيرها الذي قد لا يدرك كثيرون من العامة مبادئه الأولى الفراغ الذي تركه الإسلاميون في هذه الدوائر.
ان اعطاء احكام المنع والتحريم لصورة في الاقتصاد والاجتماع ونحوها ليس كافياً.
لتكن هناك مبادرات إسلامية يعيش الناس في ظلها اقتصادياً واجتماعياً، وهذه شمولية الرسالة.
فالإسلام لم يأت ليلاحق اشكال التجاوز البشري فقط في أي مجال من مجالات الحركة البشرية، والرسالة الإسلامية تضمن صياغة مشاريع النهضة الشمولية في أي دائرة.
يفترض- أيها الاخوة- ان نمتلك صياغة ذات قيمة عملية في كل الدوائر: الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية. والحركات الإسلامية اليوم تعاني مشكلة في تبشيرها بالمشروع الإسلامي، من حيث عجزها عن مواكبة التبشير العقدي بصياغة حياتية تقدم البديل الشرعي، بينما هي تواجه مشاريع علمانية متمكنة في الواقع، وربما كان من أهم الاسباب هنا القصور في المرجعية العلمية القادرة على التعامل مع الحال القائمة.
ان امتلاك مشروع تطبيقي يعني كثيراً من الواقعية في الطرح الإسلامي، وانت لم تفعل شيئاً كثيراً بمجرد الحكم على الواقع بالتجاوز أو النقص، أو حتى بتجاهل الواقع الثقافي والاجتماعي والتربوي.
يفترض ان نتجاوز مرحلة الحديث المجرد عن الحدود الثقافية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية إلى صنع مشاريع النهضة، وان نتجاوز مرحلة التخصص الضيقة في دعوتنا، بل علينا ان نفلح في تجاوز أزمة المفهوم الضيق للدعوة والإسلام، والطرح الذي يمارسه بعض الدعاة اليوم يمثل تقنيناً حدودياً للأثر الإسلامي حتى أصبح كثير من الإسلاميين لا يملك إلا خطاباً واحداً يناسب انموذجاً واحداً من المجتمع والبقية في دائرة الصراع أو التجاهل.
والملاحظ ان لغة كثيرين منا ومشاريعهم المقدمة غير كافية لاستيعاب حركة المجتمع، وظروفه القائمة، والإسلام جاء واقعياً في خطابه، وفي تشريعاته، ولهذا صارت الشريعة متدرجة في كثير من الاحكام.
بعضنا اليوم يتجاهل هذه القيمة أو لا يفقهها تماماً، والإسلام ليس ورقة تمنحنا الوصاية على الناس، أو حركة لمراقبة الفرد من الداخل البشري، انه مراقبة بين العبد وربه، ولهذا يجب ان يكون مقصودنا تديين الناس لرب العالمين، وليس ان نحظى بالتبعية والالتفاف حولنا.
7/ من اشكاليات الرؤية عند بعض الإسلاميين تقديم المطالبة الكمالية للإسلام، ورسم صورة مثالية للالتزام والتدين، والمطالبة بالنموذج الكلي في التدين، وتمييز الدعاة انفسهم بلغة خاصة ومظهرية خاصة، وربما صعبت الحركة داخل المجتمع أو بعبارة اظهر اصبحنا الى حد كبير غير قادرين علي الاندماج داخل مجتمعاتنا الإسلامية، واصبح المجتمع الإسلامي في كثير من الاقاليم عاجزاً عن فهم التطبيق الإسلامي، فإنه لا يشاهد إلا حركتنا الخاصة، وهي حركة لها واقع محدود، وغير مؤهلة للتطبيع الاجتماعي، واصبحنا نتعاطف مع مجتمعاتنا في الازمات فقط، وربما نظرنا إلى الواقع الاجتماعي نظراً معقداً يتعذر علينا ان نندمج معه بشكل صحيح.
ايها الاخوة هذه في تقديري من مشكلات عملنا اليوم، ولئن كانت هناك بداية رؤية إسلامية واعية تجاوزت هذه العقدة فمازال الواقع تحت سيطرة «النظرة الكمالية» في المطالبة. من المهم ان نعي ان مجتمعاتنا قد تعجز عن الانتظار والاملاءات الخاصة التي بعضها ليس له وضوح شرعي. والإسلام الذي يتعلق به حق الاخوة والحقوق الإسلامية ليس مقصوراً على التمسك الخالص التام، بل هو تحقيق اصل الإسلام، ويفترض ان نفتح علاقات ولائية صادقة مع كل اشكال المجتمع وطبقاته مع الدعوة إلى التمام والايمان، وترك منكر القول والفعل، وألا نكون وحدنا وننتظر ان يتحول المجتمع إلى رؤية نقدمها. ان هذه الرؤية لو كانت تمثل الإسلام تماماً لم يكن من الشرعي ولا من العقلي الوقوف في العلاقة الولائية التعاملية عندها، فضلاً عن كونها محاولة خاصة قد تكون أحياناً غير مؤهلة للتطبيع الاجتماعي لكونها تقف وراء الحاح معين في مفهوم نسبي ولو كان ذا قيمة مبدئية عالية، وهذا ما نتواصل في الحديث عنه في الرقم التالي.
|