لكل عملٍ عاداتٌ وتقاليد تثبت مع الأيام حتى تصبح ذاتَ قداسةٍ عند أصحابها، يصوِّر لهم تقادم عهدها أنها أمرٌ لازم لا يمكن الاستغناء عنه، ويظل الوهم يحيط بها وبأصحابها حتى يبلغ بهم حدَّ التعصُّب لها دون رويَّة وتفكير، ولاشك لدينا أنَّ العادات والتقاليد التي يصنعها الناس لأنفسهم بعيداً عن التفكير السليم تصبح قَيْداً يستمتع به صاحبه ولا يريد الفكاك منه، وإذا أراد الفكاك منه عجز بسبب «ضغط العادة والتقليد، وضغط المجتمع الذي نشأ على ذلك».
وفي عالم الإخراج التلفازي والإذاعي تبرز «عادة الموسيقى» التي تهيمن على أذهان المخرجين حتى توهمهم أنها أمرٌ لازم لا يكمل عمل مخرجٍ بدونه، ونشأت بسبب ذلك «عقدة الموسيقى عند معظم أولئك المخرجين الذي ينتمون - في العادة - الى مدرسة واحدة يتعلمون فيها مع الموسيقى ما أسميته هنا «عقدة الموسيقى» فيصبح كلُّ مخرجٍ مصاباً بهذه العقدة، غافلاً بسببها عن معاني الانسجام بين المادة التي يخرجها وبين الموسيقى.
ولعل هه العقدة هي السبب في وجود أصناف من الإيقاعات الموسيقية المختلفة، الراقصة، والحزينة، والجادة، والرخوة، والصاخبة، والهادئة، بل إن الأمر قد تجاوز ذلك إلى ما يُسمَّى وَهْماً الموسيقى الدينية، التي تعقب البرامج الدينية، أو الأذان، وتصاحب ما يسمّونه الفترات الروحية في التلفاز أو الإذاعة، وهكذا تسيطر هذه العادات والتقاليد الفنية البالية على أذهان كثيرٍ من المخرجين إلى درجةٍ يفسد معها العمل الإخراجي وهم لا يشعرون.
ولي مع «عقدة الموسيقى» تجارب، لا بأس أن أروي بعضها، حينما كانت حملة التبرعات المباركة التي قام بها التلفاز السعودي دعماً للشعب الفلسطيني، تلك الحملة التي كانت مشرِّفةً لهذه البلاد وأهلها وكان للأخ الكريم د. سعد البريك دور ناجح فيها، أُجري اتصال هاتفيٌّ معي، تحدَّثت فيه عن واجب الدَّعم للشعب الفلسطيني المظلوم الذي سلبه العدوان الصهيوني حقوقَه، ثم ألقيت قصيدة عنوانها «نكهة الموت»، وهي قصيدة صوَّرت فيها مشاعر الأسى والحزن التي سيطرت على قلبي حينما رأيت صورة ذلك الفتى الفلسطيني المحاصر في بيته المتهدم وبجواره أمُّه وأخوه قد فارقا الحياة، وبقي على ذلك أياماً وهو يبكي ويستصرخ العالم قائلاً: أنقذوني، فكُّوا عني حصار دبَّابات العدو اليهودي حتى أتمكَّن من دفن جثتي أمي وأخي، كانت القصيدة تعبيراً عن هذه الصورة الدَّامية التي تَقْطُرُ حسرةً وألما، ولكنَّ المخرج ما كاد يسمع أوَّل بيتٍ منها، حتى غلبت عليه «عقدة الموسيقى»، فإذا بموسيقى تنبعث من وراء صوتي بإيقاعاتٍ لا تناسب المقام أبداً، وإنما فرضتها تقاليد هذه الصَّنعة وعاداتها التي توهم أصحابها أنَّ الشعر مهما كان موضوعه لابد أن تصاحبه الموسيقى التصويرية، وإنْ خالفت أجواءه العاطفية ومعانيه وألفاظَه، وما من أحدٍ بعيداً عن عقدة الموسيقى لديه ذوقٌ أدبي يدرك به أجواء الشعر وأبعادَ معانيه الاَّ ويؤكد أن الموسيقى في هذا الموقف غير مناسبة، وليست تصويرية في هذه الحالة، وإنما هي «تَشْوِيشيَّة» تؤذي أذن المستمتع بمعاني الشعر وإيقاعاته.
وفي برنامج «أهلاً بالمستمعين» الإذاعيّ استضافني المذيع الناجح صوتاً ولغة الأخ «يحيى الصلهبي» في لقاء مع المستمعين والمستمعات سعدتُ به كثيراً، علمتُ بعد انتهاء اللقاء وإذاعته حين استمعت إليه مسجَّلاً أنَّ المخرج لم يدع مقطوعة شعرية ولا قصيدة ألقيتُها في ذلك اللقاء تُفْلِتُ من قبضة الموسيقى التي لم تكن مناسبةً لأجواء ما ألقيتُ من الشعر خاصة تلك القصيدة التي صوَْرْتُ فيها جرحنا الفلسطيني النازف.
وبهذه المناسبة أنادي المخرجين الكرام، وهم أصحاب صنعةٍ قائمةٍ على الذوق وتحقيق الانسجام بين أجزاء وفواصل المادة الإعلامية التي يخرجونها، أناديهم إلى مراجعة هذه «العادات والتقاليد الموسيقية» التي تخرج العمل عن طوره الصحيح، وتقذف به أحياناً في لجَّة الصَّخب التي تؤذي مسامع كل متذوِّق يعرف معنى التناسق والانسجام.
وإني أذهب بظني في بعض الأحيان أن بعض المخرجين يأتي بفواصل الموسيقى لتمديد وقت البرنامج وتمطيطه، خاصةً حينما تمزِّق إيقاعات الموسيقى كلمات المذيع تمزيقاً جائراً، فما يكاد يقول المذيع في بعض البرامج، السلام عليكم حتى تدخل قطعة موسيقية بين هذه الجملة وجملة، (ورحمة الله وبركاته) وما يكاد يقول المذيع أهلاً حتى تهجم الموسيقى عليه لتفصل بين هذه الكلمة وكلمة «وسهلاً».
الإخراج التلفازي والإذاعي إبداعٌ ومقدرة فنية وذوق، وإنَّ «عقدة الموسيقى» لا تدل على شيء من ذلك أبداً، ما أجمل أنْ يخرج كثيرٌ من المخرجين من دائرة هذه التقاليد الموسيقية «البالية».
وما أجمل أن يراعي «المخرجون» شخصيات ضيوف برامجهم، ومعاني الكلام الذي يقولونه شعراً ونثراً.
لكأني بالمسجد الأقصى يقول لكل مخرجٍ يزفُّ ما يقال عنه من نثرٍ أو شعرٍ حزين بالموسيقى: ويحك أيها الحبيب ألا تُحِسُّ بحسرتي وألمي؟؟.
إشارة:
عمرنا في مدى الحياة رحيلٌ
ليلةٌ تنطوي ويأتي نهار
رحلة والزمان فيها محيط
تاه فيه السَّفينُ والبحَّارُ
|
|