يلاحظ المحللون السياسيون نشاطاً واهتماماً غير منقطع للحكومة التركية ورئيسها السيد عبدالله كول وزياراته الإقليمية في المنطقة في إيجاد حل سلمي لقضية ما تدعيه واشنطن من وجود أسلحة الدمار في العراق وان حكومته تحاول عدم الإفساح عن وجودها داخل العراق ومع كل ما بذلته بغداد من تسهيلات يكاد أن يكون بعضها غير معقول وليس من حق مفتشي الأمم المتحدة من دخولها كالمراكز الرئاسية والمساجد والمدارس أثناء فترة الاختبارات النهائية للطلبة، ولكن إصرار القيادة السياسية الأمريكية على وجود مثل هذه الأسلحة يصعد الموقف ويقرب شبح الحرب ضد بغداد . وتدرك الحكومة التركية ومعها كافة دول الجوار أن التدخل بشؤون العراق الداخلية سيؤدي إلى مخاطر عديدة على وحدة الأراضي العراقية أولا وهذا سيؤثر على دولة جارة مثل تركيا لها حدود طويلة وملتهبة مع العراق، فالمنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا تشكل حدوداً كاملة بينها والأراضي العراقية، وكلتا المنطقتين تسكنهما أكثرية كردية وقد شكلت هذه المنطقة عبئاً سياسياً وعسكرياً على الحكومات التركية التي سبقت حكومة السيد عبدالله كول وكانت المنطقة الكردية في تركيا منطقة عسكرية بل ساحة حرب لمكافحة التمرد العسكري الذي قاده الإرهابي عبدالله أوجلان وتعريض أكثر من ثمانية محافظات تركية لاختراق أمنها وتعريض المواطنين للقلق الذي يصل في أكثر الأحيان إلى الضحايا وبأرقام عالية ناهيك على أن هذه الحالة من الحرب الداخلية مكلفة للخزينة التركية بنزيف مالي واقتصادي كبيرين علاوة على تعرض المنطقة الجنوبية الشرقية والمكتظة بالقبائل الكردية إلى تخلف اقتصادي إنمائي لتوقف كافة المشاريع الإصلاحية نتيجة الحرب الأهلية والتي تتجاوز حدود السيادة التركية في أكثر الأحيان بدخول القوات التركية للأراضي العراقية مطاردة فلول قوات حزب العمل الكردي المنشق على الحكومة التركية وحتى مع الأحزاب الكردية في شمال العراق.
إن حكومة حزب العدالة والتنمية صاحبة الأغلبية المطلقة في البرلمان التركي «367 مقعدا من مجموع 550 مقعداً أعضاء مجلس الأمة التركي» تدرك أن قيام حرب في المنطقة تقودها أمريكا من الأراضي التركية تعرض تركيا إلى مخاطر شديدة وتعتبر شريكاً أساسياً مع واشنطن في حربها ضد بغداد ولذا تخشى ردود الفعل السياسية أولا من قيام دولة كردية في شمال العراق تهدد أمن واستقرار ووحدة الأراضي التركية في المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا والتي تشكل امتداداً للمنطقة الكردية في شمال العراق وقد يتعرض تدفق البترول العراقي وأنابيب نقله عبر الأراضي الكردية إلى ميناء مرسين في تركيا لخطر سيطرة الأكراد عليه والتحكم في تدفقه إلى تركيا علاوة على مشاكل في النقل وحركة الترانزيت للبضائع التركية المتجهة للعراق والخليج العربي.
وتنظر تركيا لوجود القوات الأمريكية بكثافة على أراضيها وجعلها ساحة عمليات عسكرية قد يعرض السيادة التركية للخطر ويجعل شريك اليوم مسيطراً على القرار السياسي بعد تحقيقه أهدافه العسكرية والسياسية يوم غد. وتجعل المشاركة في عمليات عسكرية لإبادة الشعب العراقي الجار والذي تربطه علاقات تاريخية وسياسية وحسن جوار لمدة طويلة لا سيما وأن هناك أكثر من مليون ونصف تركماني يعيشون في منطقة كركوك وخانقين والموصول وبغداد.
ومن الأمور الاقتصادية الأخرى التي تقلق الحكومة التركية أن معظم المشاريع الزراعية الاستراتيجية تقع في منطقة الكاب وهي مساحات واسعة من الأراضي المستصلحة في منطقة حران القريبة من الحدود العراقية السورية والتي تتغذى بمياه سد أتاتورك بعد تحويل مجرى نهر الفرات نحو إحياء هذه المساحة الواسعة من الأراضي الزراعية والتي كلفت مليارات عديدة من الدولارات وعلى شكل قروض دولية وتعرض سد أتاتورك لخطر الصواريخ العراقية والتي يقع في مداها يعرض الاقتصاد الزراعي التركي كله للخطر.
ومن الناحية العسكرية والسياسية تدرك أيضا حكومة أنقرة أن سيطرة القوات الأمريكية على العراق سيعرض جميع عواصم الدول المجاورة لخطر السيطرة العسكرية وإضعاف حرية القرار السياسي والتي تخشى بعض هذه الدول المطلة على ساحة العمليات من نيران المعركة والتي لن تكون نزهة سياحية لقوات التحالف الأمريكي الإنجليزي. وان الخطاب السياسي التركي واضح في اختياراته بين المنافع الاقتصادية والمساعدات المالية والنفوذ الإقليمي الموعودة من القيادة الأمريكية لتركيا وبين خشية الأتراك من اللعب السياسية الدولية وينتج عنها قيام دولة كردية في شمال العراق تجعل المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا بركاناً هائجاً يعرض وحدة وأمن الوطن التركي كله للخطر.
وهناك مؤثرات أخرى على القرار التركي داخلياً متمثلة بمعارضة الشارع المسلم التركي لهذه الحرب غير المبررة على شعب العراق الذي تحمَّل الشيء الكثير من العذاب والحرمان طيلة العشرين عاماً الماضية.
ففي كل يوم يخرج المواطنون الأتراك في تظاهرات ومسيرات سلمية محذرة من الحرب ومنددة بنتائجها على المنطقة العربية والإسلامية كافة. وقد نظمت الاتحادات النسوية والمدرسين والأطباء والصحافيين برحلة سلام باستئجار قطار خاص أطلق عليه قطار السلام في اسطنبول حتى قاعدة «أنجيرلك» الأمريكية في جنوب شرق تركيا والتي تنطلق منها الطائرات الأمريكية لتقصف العراق يومياً، وقد يؤثر هذا التوجه السلمي على القرار التركي وبرأي ذلك أضعف الإيمان أمام جدول المكاسب المنتظرة السياسية والمالية التي وعدت أمريكا تقديمها لتركيا في حال المشاركة في هذه الحملة العسكرية على الشعب العراقي.
فقد تظهر مصالح تركيا العليا في تعديل اقتصادها المتدهور ومدها بمنح مالية تساعد على اعتدال حركة الاقتصاد التركي اليومي كما تمهد في دخول تركيا للاتحاد الأوروبي وإنهاء الخلاف التركي اليوناني بشأن قضية وحدة جزيرة قبرص.
وأخيراً وحسب المؤشرات السياسية التي تظهر بوضوح رغبة تركيا لأن تكون العنصر المؤثر في توجيه سياسة الشرق الأوسط وهو البند غير المرئي في مؤتمر الست بأسطنبول وقد تدير العواصف الشديدة للأحداث الخطيرة التي تعيشها المنطقة الشراع التركي نحو جبهة الشرق وهو الاتجاه الصحيح نحو مستقبل تركيا السياسي!.
(*) محلل اقتصادي عضو جمعية الاقتصاد السعودية
|