بدأت العلاقة بين العراق والمفتشين الدوليين تدخل مرحلة (التسميم) من خلال تحسس بغداد من تصرفات بعض المفتشين وارتيابها من أسئلة البعض الآخر، بما جعل المسؤولين العراقيين بدءاً بالرئيس العراقي صدام حسين لا يستطيعون كظم غيظهم، أو لجم غضبهم أكثر مما تحملوا فطفح عندهم الكيل لينعتوا المفتشين بالتجسس.
هذه النغمة التي بدأت هادئة ستتحول إلى دوي صاخب في الأسابيع المقبلة كما يرى المراقبون السياسيون في بغداد ذلك لأن واشنطن التي يطربها هذا العزف ستدفع المفتشين إلى التمادي في الأسئلة ذات الطابع الاستخباري المدعومة بتصرفات استفزازية دفعاً باتجاه أن يقول العراق (لا).. وهذه ال(لا) هي الكلمة السحرية التي تنتظرها واشنطن لتجعل منها قميص عثمان، وتدعو مجلس الأمن إلى القصاص من العراق، وإذا (ما تخاذل) المجلس فإن الولايات المتحدة وحدها ستشن حرب (الجمل) أو (صفين) مطالبة بالثأر من الذين قالوا (لا) للتجسس!!
ليس من حق العراق أن يعترض مهما كانت دواعي الاعتراض وأسبابه، وليس من حقه ان يرفض مهما كان حجم ذلك الرفض ومستواه ونوعه، وقد أدركت بغداد هذه الحقيقة وتيقنت ان واشنطن تريد استدراجها نحو الفخ. فتعاملت بحذر ومهارة وهي تسير داخل حقل من الألغام.
إن مفتشي (الانموفيك) قد دخلوا العراق في ظروف اقسى واصعب على بغداد من الظروف التي دخل فيها مفتشو (اليونسكوم) لكن عناصر (اليونسكوم) قد دخلوا لعبة التجسس من الأبواب أما مفتشو الانموفيك فانهم يريدون دخولها من الشبابيك والفتحات الضيقة، وفي كلتا الحالتين فان بغداد كانت ترى وتسمع لكنها تتكلم مرة وتسكت مرات، لأنها تريد أن تدفع بالتي هي احسن، غير ان تحمل بغداد بدلاً من ان يواجه بمكافأة وامتنان، راح يقابَل بمزيدمن التحامل والوعيد فكم تتحامل بغداد على جرحها، وتكظم غيظها ، وتستعيذ بربها مما يلحق بها من اذى، ومما يصيبها من جور.. ومقابل ذلك إلى أي مدى سيصل التحامل بواشنطن.. وهل تنتظر اشهراً اخرى من التفتيش الذي اصبح أشبه بحكاية البيضة والدجاجة وأيهما خرجت من الأخرى...؟!
ليس من المستبعد أن تتفجر أزمة بين العراق والمفتشين قبل مناقشة تقارير المفتشين في مجلس الأمن يوم 27 يناير الجاري، خاصة وان الإدارة الامريكية باتت منزعجة من عدم الإمساك بالصاعق الذي يفجر الأزمة ويحولها إلى مواجهة مسلحة، وليس من المستبعد أيضا أن يتمادى المفتشون في سلوكهم (المخابراتي) إمعانا في استفزاز العراق، عسى أن ينفد صبر بغداد فينجم عن ذلك تصرف أو موقف تبنى عليه افتراضات قابلة لان تكون الشرارة التي تحرق جبل القش.
إن تصريحات البرادعي وبليكس توحي بأن زمن التفتيش سيطول، وان استجلاء حقيقة ما إذا كان ثمة بيض تحت الدجاجة العراقية أم لا يحتاج ربما إلى أشهر أخرى قادمة، وهذا يعني أن على الولايات المتحدة إما أن تتحلى بالصبر وتتعامل مع العمل العسكري على انه قائم مع وقف التنفيذ وهذا خيار لا ينسجم كثيراً مع مزاج الإدارة الامريكية وتوجهاتها الرامية إلى حسم الملف العراقي قبل حلول فصل الصيف.. لذلك فمن المرجح ان تذهب واشنطن الى خيار (إثبات النفي) بمعنى أن تطلب من العراق ان يثبت عدم حيازته لأسلحة الدمار الشامل، وإثبات النفي يدخل في باب المستحيل حسب قوانين المنطق، وقد لمحت الإدارة الامريكية إلى اعتماد هذا الخيار من خلال تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين الذين رأوا (ان من واجب العراق ان يثبت عدم امتلاكه لأسلحة محرمة عليه).
على ان المراقبين في العاصمة العراقية باتوا شبه متيقنين من ان المفتشين سوف لن يعثروا على أية دالة تقودهم إلى اكتشاف ما يثبت وجود اسلحة للدمار الشامل في العراق، أو حتى محاولات لإحياء برامج انتاج هذه الاسلحة.
فالمفتشون زاروا خلال سبعة اسابيع من التفتيش اكثر من 350 موقعا، وقد شملت زياراتهم المواقع المشتبه بها والتي وردت في تقرير توني بلير وبعضها كانت المخابرات الامريكية قد وضعتها في دائرة الشبهات لكن جميع تلك المواقع كانت نظيفة من كل (الشكوك والشبهات)، وهذا يعني ان ما يقرب من نصف المواقع التي يخطط المفتشون لزيارتها قد ثبتت براءتها مما دفع بليكس والبرادعي ان يطالب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بمساعدة المفتشين وتزويدهم بمعلومات حول المواقع العراقية المشتبه بها في إشارة واضحة إلى اتهامات واشنطن ولندن حول ضعف أداء المفتشين.
ان واشنطن تدرك ان إرجاء العمل العسكري ضد العراق حتى ولو لأشهر قليلة سيجعله قرارا في مهب المتغيرات الدولية وهي كثيرة.. ربما أسخنها الأزمة الكورية. وقد يظهر ما هو اسخن منها، لكن الإرجاء قد يفرض نفسه على الإدارة الامريكية فلا تجد منه فكاكا، وعند ذاك سيظل الزمن الآتي مشحوناً بالوعيد الأمريكي وستبقى الأيام حبلى بما تلد.. واغلب الظن ان ولادتها سوف لا تكون عفوية بل عبر عملية قيصرية سواء كان مشرطها السلاح أو الدبلوماسية!
(*) كاتب وصحفي عراقي
|