الوضع القائم في المنطقة وصل إلى درجة التأزم.. والولايات المتحدة تشن حرباً إعلامية لا هوادة فيها، وحرباً نفسية لم يسبق لها مثيل في تاريخ المواجهات بين الدول إلا في حالات قليلة ونادرة تخللت الحرب العالمية الثانية بين الدعاية النازية الصارخة التي وصلت الى درجة غسيل الأدمغة، والحرب النفسية للحلفاء التي حاولت ان تكتسح الجيوش الألمانية قبل أي مواجهة عسكرية.
إن ما نشاهده اليوم من حرب التسريبات الإعلامية من خلال صحف داخل العاصمة الأمريكية الى ما حولها في نيويورك، الى وسائل إعلام في القارة الأوروبية الى صحف ووكالات في روسيا والشرق الأوسط.. كلها تدفع بحرب نفسية شرسة للتأثير على كل قرارات العالم، ابتداء من العراق إلى منطقة الجوار الشرق أوسطية، إلى قرارات كتل ومنظمات عالمية تعطي مؤشرات عن حتمية الضربة الأمريكية للعراق.. ومعظم هذه التسريبات تتركز على حجم الضربة، أو توقيتها، أو السيناريوهات المتوقعة لها..
والدول الإقليمية الست المجاورة (المملكة والكويت والأردن وإيران وسوريا وتركيا) هي المتضرر الرئيسي من الحرب التي قد تأتي.. وهي التي قد تتضرر من الوضع القادم في العراق الذي قد يفرض أوضاعا غير مناسبة لسياسات ومصالح هذه الدول.. فهل التحرك الاقليمي لهذه الدول (إضافة لجمهورية مصر العربية) جاء في الوقت الضائع؟ مجموعة أسئلة لا نجد لها جواباً شافياً في الوقت الراهن..
والمملكة العربية السعودية هي دولة معنية بكل تفاصيل السيناريوهات القادمة للعراق أو للمنطقة، لمجموعة أسباب، من أهمها أن:
1- المملكة دولة ذات ثقل سياسي في المنطقة وفي العالم، ولهذا فإن أي تحرك سياسي أو غيره من خارج المنطقة يؤثر في المنطقة، وبالتالي يؤثر على المملكة وسياساتها الداخلية والخارجية.
2 - المملكة ذات مكانة ريادية في العالم الإسلامي، ولهذا فإن أي قرار أو سياسة للمملكة تتطلع إليها الدول الاسلامية بترقب شديد.. لكون ذلك ينعكس على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها..
3- المملكة تحتل مكانة ريادية في العالم العربي لما تضطلع به من مسئوليات للدفاع عن قضايا الأمة العربية.. لأن أي قرار تتخذه المملكة من شأنه أن يؤثر إيجابا أو سلباً على وضع المنطقة العربية..
4- المملكة تتأثر مباشرة بالوضع في العراق، فعلى مدى أكثر من عشرين عاماً والمملكة تتجرع سياسات عنجهية النظام السياسي القائم في العراق، وتحديداً منذ امتلاك صدام حسين لزمام السلطة في نهاية السبعينيات الميلادية.. حيث قضت المملكة عقد الثمانينيات وهي تدعم نظام الرئيس العراقي دفاعاً عن ما سميناه «الجبهة الشرقية» للوطن العربي.. وقضينا عقد التسعينيات ونحن نسدد فواتير حرب الخليج الثانية، التي بدأت باحتلال الكويت، واستمرت إلى اليوم بانكفاء النظام العراقي على نفسه ومحاولته المستمية ان يتربص بالدول المجاورة دونما اعتذار حقيقي ومحاولة صادقة لتصحيح الوضع الذي أحدثه في الصف العربي.. والمملكة تواصل تحملها تبعات هذا الوضع في العقد الجديد الحالي، حيث من المحتم ان تتجرع المملكة تبعات الوضع القادم في العراق والمنطقة، مثلها مثل باقي دول المنطقة..
وبناءً على ما تقدم، فإن المملكة هي أمام أربعة مسارات استراتيجية، هي بحاجة الى دراسة متعمقة لمعرفة أوجه الكسب وحجم الخسارة التي تواجه كل مسار:
أ - خيار (مسار) الوضع القائم، أي بقاء صدام حسين في السلطة واستمرار نظامه السياسي والعسكري الذي لا يتوانى عن تهديد جيرانه وبث الشك والريبة في أنظمتها السياسية.. وهذا الوضع هو نفس الوضع الذي يؤدي الى استنزاف المنطقة وتوجيهها الى مراحل من عدم الاستقرار التام.. ودليلنا هو ان هذا الوضع هو الذي أدى فعلا الى الوضع الحالي المتأزم.. ومع مرور الوقت فإن هذا الخيار بدأ ينحس، ويفرز خيارات أخرى جديدة.
ب - خيار الحرب المطلقة، أي أن المملكة ستكون مؤيدة لقيام حرب ضد الرئيس صدام حسين، وتساهم مع القوات الأمريكية وقوات التحالف لإطاحة النظام العراقي.. وهذا الخيار هو خيار براجماتي يتحقق من خلاله مسايرة التغيير القادم ومحاولة الظفر بحصص من الغنائم التي ستتوزع على المنتصرين.. وبأقل تقدير فإن المملكة لن تضع نفسها في مواجهة قادمة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول العظمى التي تسعى الى اجراء عمليات تغيير حقيقية في المنطقة.. وهذا الخيار يستلزم ان توافق المملكة على خيار الحرب دون ان تكون هناك بالضرورة موافقة من مجلس الأمن لشن هذه الحرب..
ج - خيار الحرب المشروطة.. وهو ان المملكة ستدخل الحرب فقط، إذا صدر قرار من مجلس الأمن بشرعية هذه الحرب.. وفي مثل هذه الحالة تكون المملكة مثل باقي دول العالم مضطرة الى المساهمة في الحرب واجراء التسهيلات التي تساعد الأطراف الداخلة مباشرة في الحرب إذا هي لم ترغب ان تباشر فيها.. وهذا الخيار رغم شرعيته إلا انه يعكس مدى الاضطرار الذي يفرض على المملكة وغيرها من دول العالم لمسايرة هذا الخيار..
د - خيار اللاحرب.. وهو خيار يسعى إلى منع الحرب.. وانعكس هذا الخيار على شكل مظاهرات شعبية في عواصم ودول العالم الغربي خاصة.. ثم انطلقت على شكل تكتل اقليمي من دول المنطقة للحيلولة دون نشوب هذه الحرب.. ولكن عدم نشوب الحرب يعني وضع خيارات استراتيجية أخرى داخل هذا المسار الكبير.. فكيف يتم ايقاف عجلة الحرب، وما هي الحسابات التي تتوقف عليها داخليا في العراق واقليميا في المنطقة ودوليا في مختلف مناطق العالم.. ويظل هذا الخيار هو الرغبة الأولى والصادقة لكل حكومات وشعوب المنطقة.. لكن قد لا يكتب له النجاح من الناحية العملية لعدم تفعيل القوى الدبلوماسية والإعلامية التي تساند هذا الخيار، وتعزز من فرص قبوله إقليمياً وعالمياً.
إذن هذه هي المسارات (الخيارات) الاستراتيجية التي تواجهها المملكة إزاء الوضع المتأزم في المنطقة.. ويظل السؤال ما هو الخيار الذي ستتخذه المملكة في الفترة القادمة.. وبطبيعة الحال، فإننا نرى ان هناك مصالح استراتيجية تغلب على كل خيار من الخيارات الأربعة السابقة.. وكل خيار له سلبياته وايجابياته، وله فقده وكسبه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. كما هناك مصالح وطنية وقومية ودولية ينبغي مراعاتها في أي قرار قادم..
وفيما يخص العراق، فإن التغيير قادم سواء باعلان حرب أو بدونها.. وقد تحقق الولايات المتحدة كل التغيير الذي تتمناه في العراق دون إراقة دم جندي أمريكي واحد.. نتيجة هذه الحرب النفسية والدعاية الإعلامية..
ولكن كيف سيكون مصير صدام حسين؟ هناك احداث يمكن ان تغير مسار بعض هذه التأزمات التي تعيشها المنطقة، فمثلا.. هل لدى الرئيس صدام حسين نزعة لأن يغادر بطوعه الى خارج العراق.. فهل يتنازل فخامة الرئيس عن سلطته من أجل أن يحقن دماء شعبه ويصرف هذا الخطر الداهم عن مصالح العراق وشعب العراق وشعوب المنطقة؟
وإذا لم يتحقق هذا الأمر فهل يملك الرئيس أي خيارات أخرى لإنقاذ نفسه ونظامه وشعبه والمنطقة؟ وفي رأيي الشخصي ان الرئيس صدام حسين لا يملك الكثير من الخيارات، إلا أنه يظل يملك خياراً واحداً فقط يمكنه ان ينهي به هذه المأساة التي يواجهها العالم.. انه يملك مسدس الانتحار الذي يطلق به رصاصة الرحمة على نفسه.. فلن يكون أمامه سوى أن ينهي بنفسه مأساة بدأه هو بنفسه.. فإن من بدأ المأساة ينهيها.. هكذا يقول الشاعر.. وهكذا فعل هتلر قبله في لحظات حاسمة عندما تكالبت عليه جيوش الحلفاء من الغرب وجيوش الاتحاد السوفيتي من الشرق في عاصمته برلين.. وعندها فقط أنهى هتلر وهو يجلس إلى جانب عشيقته حياته بنفسه.. ولكن بعد ان انهارت كل ألمانيا، وتقطعت أوصالها.. وفي رأيي أن صدام إذا اتخذ مثل هذه الخطوة فلن تكون إلا بعد أن ينهي كل شيء في العراق.. ثروات.. بشر.. مؤسسات.. ثم يأتي هو أخيراً..
(*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال.
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود.
|