قصة سنمار الذي بنى للملك النعمان قصر الخورنق في الكوفة انتهت بمأساة، إذ أمر الملك أن يُلقى من أعلى القصر حتى لا يبني مثله لغيره. وكان جزاء سنمار الموت، وسجّل النعمان به سابقة في التاريخ العربي جسدت غيرة عمياء قدمت الموت جزاءً للإبداع والعمل والإخلاص، وإذا استخلص الناس من التاريخ بعض العبر، فقد يكون هناك أكثر من سنمار عربي فضل الموت وتوارى بهدوء وسلبية ووأد قدراته حتى لا يكون ضحية جديدة لجريمة الإبداع والعمل والإخلاص في العالم العربي، ذلك أنه قد يجيّر الناس الموت لإبداعهم وعملهم وإخلاصهم لينجوا بأرواحهم وأنفسهم ويعيشون حياة عادية رتيبة بعيدة عن أضواء قاتلة كتلك التي تُسقط الفراشات الى حتفها وتنتزع منها نشوة الحياة وبريق الجمال.
وعلى النقيض من هذا المثال وفي الجزء الآخر من الكون، يصمم موزع بريد فرنسي اسمه شوفال على بناء قصر متميز بقدراته الذاتية وامكاناته الفردية، ويجسد تصميمه على أرض الواقع ويرفعه بعرق الأيام وتعب السنين لتعتبره السلطات الفرنسية بناءً أثرياً يشهد بإبداع وعمل واخلاص الإنسان الفرنسي على مر العصور. ويبدو ان موسى اللبناني، واسمه موسى عبدالكريم المعماري، كان محظوظاً إذ لم يقرأ التاريخ العربي ولم يسمع بقصة سنمّار، بل اندفع الى رحلة تحدٍ غريبة بدأها بعد ان ترك مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية مبكراً.
قصة تحد غريبة جسدها موسى المعماري في ذلك العصر البديع الذي شيده بمفرده، والمعروف بقلعة موسى بمنطقة بيت الدين في بيروت. القصر كبير وبديع يبهر زواره ويعجبهم، ولكنه يترك أمامهم أكثر من علامة استفهام تتراقص أمامها أكثر من علامة تعجب. هذا القصر الكبير البديع له بوابة صغيرة جداً لا يمكنك المرور منها إلا بأن تحني رأسك،وهذا سر التحدي الغريب. التقيت موسى المعماري ليحكي لي قصة تلك البوابة، لقد كان تلميذاً فقيراً في الثالثة عشرة من عمره عندما نهره معلمه وضربه وطرده من الفصل معيراً إياه بأن مثله يجب ان يحني رأسه لعلية القوم وأغنيائهم. وكانت الصفعة التي تلقاها موسى الصغير من معلمه وهو يترك الفصل، هي الشرارة التي أوقدت في داخله شعلة التحدي. قد تكون المساحة المعمارية التي تفصل بين سنمّار وشوفال وموسى شاسعة، ولكن شرارة التحدي التي فجرت إبداع وعمل وإخلاص كل منهم تفجرت من البوتقة البشرية نفسها التي تكمن في داخل كل إنسان على وجه هذه المعمورة الكبيرة، ولعل المجتمع الذي تفاعل مع كل منهم يختلف عن الآخر، بحكم ما تحمله أجنة كل مجتمع من مكونات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية مختلفة يدل عليها مستوى تفاعله مع إبداع وعمل وإخلاص أفراده. عندما افتتح موسى قلعته المعجزة في عام 1984م، كانت بيروت تضج من صخب القنابل والمدافع وجثث القتلى وأجسام الجرحى، وكان المجتمع يستقبل إبداع موسى بالعبث واللامبالاة وكأن موسى غانية تحمل مولوداً لا يُعرف أبوه. وعندما وصل موسى الى العتبة الأخيرة في رحلة التحدي الغريبة، بدأ رحلة تحد جديدة.. تحد مع المجتمع الذي تفرقت أطرافه وفُصلت عن بعضها في حرب أهلية «غبية» شلّت اقتصاده وحجمت امكاناته وبدّدت ثرواته.
تحدٍ لإعادة هيكلة الإنسان. فهذا الدمار الذي خلفته سنوات الحرب هو من صنع الإنسان، والإنسان هو نواة المجتمع، ولن يصلح هذا المجتمع ولن يكون قادراً على النهوض إذا لم تلتئم اطرافه في منظومة وطنية متجانسة تجمع مكوناته وتحكم العقل وتقدر الإبداع والعمل والاخلاص. بيروت تصحو اليوم من غفلتها، ويحتضن مجتمعها رغبة جادة في طي صفحات الألم والفرقة والدم، وهي تقوم بإعادة البناء الشامل. والبناء الحقيقي هو بناء المجتمع. بيروت هي التحدي العربي الكبير لرسم صورة جميلة للإنسان العربي. وليكن انموذج موسى كقصة شوفال صفحة عربية جديدة تمحو مأساة سنّمار من ذاكرتنا. عندها ستكون في تاريخنا العربي دروس وعبر ونماذج تستفيد منها الأجيال القادمة.كل هذه الإرهاصات الفكرية تداعت في مخيلتي وأنا أجوب شوارع بيروت وهي تحاول جادة ان تلملم اشلاءها وتتوحد في جسد قوي ينهض من بين أكوام الدمار وهو يحدق بعين فيها الكثير من الجرأة نحو مستقبل آتٍ لا تفصله عنه إلا عزيمة يمتلكها ولكنها تحتاج الى بعض الوقت، والوقت كله يحين ويُختصر للأوقوياء فقط. وبيروت كما رأيتها قوية.. قوية.
(*)رئيس دار الدراسات الاقتصادية /الرياض
|