نبض يعشق تربة توضأت بدماء أبنائها.. كلمات سجينة في قضبان الشفاه.. ليل لم يتذوق طعم السكون.. هناك وعلى امتداد ذلك الطريق الهرم.. ينزوي منزل عتيق صدعه الزمن أرهقته قبلات المدافع.. هناك.. تتربع غرف مظلمة يظللها وجوم رهيب صامت إلا من أصوات المدافع المتسللة إلى الأذان.. هكذا يمضي الليل والهموم والأحزان تنمو.. تورق.. تخضر..
إلى أن يحين النهار.. ويقذف بالليل في زنزانة الفناء...
تشرق الشمس في استرخاء نشط.. متدحرجة على أسرة السماء.. تمد أطرفها.. وترسل وميضها الخافت إلى عيني محمد لتوقظه وتوقظ تلك البسمات التي لم تستفق بعد.. وتعيره حفنة من ضياء ليغسل به وجنتاه المرتويتين من راحة متعبة وتعب مريح..
ينهض محمد من سريره.. ويحتسي من فناجين الفجر قهوة الأمل ثمة أحلام تطوف في مخيلته.. تسبح في سمائه.. تسري في عروقه.. أمل يدفعه بقوة لقهر مصاعبه فيقف صامداً كالطود يتمعن في الأفق البعيد.. والمجهول.. يدس بقايا أحلام وآمال لعلها تشبع جوع الزمن.
يلتقط حقيبته المكتظة بالكتب.. ويستعد للخروج.. تستوقفه والدته الحنونة.. وتطبع قبلة حريرية في وجنتيه.. فيلوح بيديه الحالمتين مودعاً.. ذهب محمد لمدرسته وبقيت هي بجوار ذلك المصباح ذي الفتيلة الواحدة.. شيء يشبه الجرح والألم.. ينتاب خلجاتها.. ولهيب النار المتصاعد يذكرها بلهيب قهر تعايشت معه.. تنفست بعمق.. وحبال أفارها تضرب في ذاكرتها بقوة.. بدأت تتساقط أوراق الذكريات من شجرة الزمن في موسم خريفي الحزن.. لقد كانت امرأة عقيماً .. تزوجت في ريعان شبابها.. وظلت تجابه المصاعب.. تستقي الزمن بقطرات الصبر..
تدوس على قهر الحياة بقدم فولاذية.. كان حلمها الأول والأخير أن تنجب ولداً يحمل سيف صلاح الدين.. لقد كان ذلك شيئاً من أمل ووهج من ضياء..
وفي يوم ضياء مظلم كان الفرج... تنفست الأم بعمق شديد.. أخذت تتذكر لحظات حياتها.. كانت تطرق أسماعها أصوات ناطقة. تقدمت قليلاً فإذا بجندي مكفهر الوجه كاسفاً وباسراً يمسك بتلابيب طفل احتضنت يداه عرائس الحجر.. يحاول قتله وتعذيبه.
ارتفعت أنفاس تلك المرأة بانحباس حار يولد القوة والحماس لإنقاذ تلك الروح البريئة تقدمت بسرعة مدهشة.. ولكن القبر قد حفر له قبراً .. تألمت بشدة طأطأت رأسها والطريق رسم لها خطواتها القادمة.. جندي متربص بالطريق يطلق رصاصته باتجاه ذلك الجسد الغض.
|