استهلالا أعني بالاستعلاء هنا مفهومه الدارج اجتماعياً والغني قاموسه بمفردات من قبيل التأنيب والزجر والترفع والسخرية والازدراء.. اما مفهوم الإعلاء Sublimation فسوف يرد تعريفه في سياق لاحق..، لأقول إننا في طرائقنا التربوية المطبقة أقرب ما نكون الى الاستعلاء: فالكبير يزدري الصغير، والمدرس يترفع على الطالب، والذكر يستعلي على الأنثى، مثلما أننا كذلك نزدري او نبالغ في ازدراء من ارتكب جناية انحرافية فلا يسلم من الازدراء والوصم حتى لو أنه قد استوفى العقوبة وأعلن التوبة..، وغير ذلك من الأمثلة.
اما ما نحن في مسيس الحاجة إليه تربوياً فهو قلب المعادلة، وذلك بتحويل جرعات الاستعلاء الى الإعلاء، ومفهوم الاعلاء مفهوم علمي بمضامين نظرية عميقة غير انه بالامكان تعريفه هنا بتبسيط جِدُّ شديد بأنه الرفع من المعنويات بدلا من نقيض ذلك: التحطيم، فللإعلاء تأثير تربوي بالغ الايجابية شريطة ان يصاغ بوعي تربوي يخوله الاضطلاع ببعض من مسؤوليات توجيه غرائز وسلوكيات الافراد الى اهداف قيمية/سلوكية أسمى، على سبيل المثال فنحن حين نمنح المراهق غير المؤتمن الثقة المسؤولة فإننا بذلك نعليه عن تصوره الواطئ/الخاطئ لذاته بانتشاله من حضيض احتقاره لذاته الى احواض معين تقدير هذه الذات واحترامها، وبذلك نرتقي به عن سلوكياته السلبية من حيث ان منحه الثقة مدعاة للدفع به الى محاولة الارتقاء الى حسن الظن به، ولا احسب الشاعر الذي قال في صدر بيته: وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم.. إلا قد عنى إعلاء الذات حتى لو عن طريق «التشبه» الذي بدوره قد يفضي الى اعتياد ذلك والتخلق به عن قناعة.
جدير بالذكر انه بقليل من التمعن نجد أننا نمارس الإعلاء على مدار يومنا التربوي من حيث ندري ولا ندري، غير ان الخلل هنا يتمثل في ان هذا الاعلاء ليس إلا ممارسة عابرة بسياقات سلبية زاجرة مزمجرة. هذا ويضطلع الاعلاء بأدوار بالغة الاهمية في دوائر وآليات الضبط الاجتماعي، ومن العلماء من اعتبره من ضمن اهم وسائل الحد من انحراف الاحداث بل منهم من عده «الخط الدفاعي الثاني» في منظومة خطوط الدفاع الفاعلة في حماية الثقافة وافرادها، ولا شك ان مثل هذا القول يزداد اهمية في ضوء ما تبلور حديثاً في الاوساط العلمية الباحثة في مجالات الانحراف والتحليل النفسي والظواهر النفسية وخلافها، ويتمثل ذلك في الانصراف عن السرف في منح الجانب البايولوجي من الفرد كالغرائز التأثير الذي منحت اياه في السابق، وبدلا من ذلك اهمية النظر في تأثيرات المتغيرات النفسية والاجتماعية التي تجلى أنها هي التي تحظى بالنصيب الفاعل في مضمار تشكيل شخصيات الافراد وصياغة سلوكياتهم.
وأهمية القول السابق تتجلى بشكل اوضح في ضوء ما هو في عداد الثابت علمياً من ان تقدير الذات (Self - esteem)، اي تقدير لذاته يتحدد بالسلب او الايجاب وفق ما يتصوره، هذا الفرد عن ذاته هذه في انظار الآخرين حوله.. اي وفق تصوره هو لما يعتقده الآخرون عنه، وتتعين اهمية الإعلاء في هذا المنحى فيما هنالك من علاقة قوية بين كمية وعي الفرد بذاته (Self - consciousness) وتقديره لهذه الذات، وبالتالي التأثير إيجاباً على كمية ونوعية «الضبط الذاتي Self-Control في ضمائر هؤلاء الافراد وكياناتهم على شكل كفيل بالدفع بهؤلاء الافراد الى الامتثال لقيم ومعايير
المجتمع عن قناعة وصدق لا عن خوف أو رجاء أو مسايرة أو تزلف.. أو.. أو!
|