عندما نعرف أن أحد الأشخاص قتل أو جرح في الحرب نشعر بالفاجعة ولكن الأمر يزداد سوءا عندما نعلم أن ما حدث كان بسبب زملائه وهو ما يسمى بالنيران الصديقة وموضوع النيران الصديقة الآن محل تحقيق تقوم به السلطات العسكرية الأمريكية في ولاية لويزيانا لتحديد ما إذا كان يجب تقديم اثنين من الطيارين الأمريكيين إلى المحاكمة العسكرية بسبب حادث قتل أربعة جنود كنديين وإصابة ثمانية آخرين في هجوم خطأ نفذه الطياران بالقرب من مدينة قندهارالأفغانية في إبريل الماضي والمقصود بالنيران الصديقة هي النيران التي تطلقها إحدى الوحدات المقاتلة على وحدات أخرى حليفة عن طريق الخطأ وفي الوقت الذي تستعد الولايات المتحدة الأمريكية لحرب جديدة في العراق فإن موضوع النيران الصديقة يشغل بال القادة والخبراء العسكريين وبخاصة لأن مثل هذه الحوداث تمثل جزءاً متناميا من الخسائر التي تقع في أي حرب وهناك أسباب كثيرة لهذه الزيادة في مقدمتها التغييرات العسكرية.
وقد اتضحت زيادة معدلات الخسائر بسبب النيران الصديقة خلال حرب الخليج الثانية عندما أسفرت هذه النيران عن خسائر في صفوف القوات الأمريكية بلغت نسبتها 24% من إجمالي خسائرها في هذه الحرب وهذه النسبة تزيد عن أي نسبة في حروب أمريكا السابقة ثم ازدادت النسبة مرة أخرى في حرب أفغانستان ومن المتوقع أن تزداد في أي حرب قادمة.
قوة كاسحة:
والولايات المتحدة تتعامل مع أعداء ومواقف تجعل احتمالات سقوط خسائر في صفوف قواتها بنيران معادية معدومة تقريبا فالقوات الأمريكية تتمتع بتفوق عسكري كاسح على هؤلاء الأعداء الذين تختار مواجهتهم مما يعطي الأعداء فرصة أقل لإلحاق خسائر بالقوات الأمريكية لذلك فحوادث النيران الصديقة وغيرها من حوادث ميادين القتال والتي يمكن أن يكون التعامل معها بصورة سياسية أو نفسية أشد صعوبة أصبحت الخطر الأكبر في الحروب الأمريكية الحديثة فقبل حرب الخليج كانت وزارة الدفاع الأمريكية تقدر عدد القوات التي تشارك في إخراج القوات العراقية من الكويت بحوالي ستمائة ألف جندي والخسائر في صفوفها تصل إلى عشرين ألف ما بين قتيل وجريح.
خسائر حرب الخليج:
ولكن القتال على أرض المعركة لم يستمر أكثر من مائة ساعة وفقدت القوات الأمريكية 147 قتيلا فقط أثناء المعارك ولكن من بين هؤلاء القتلى سقط 35 قتيلا بنيران القوات الأمريكية نفسها يقول دانيال جوري المحلل العسكري في معهد ليكسنجتون بولاية فيرجينيا أن هذا يعني ببساطة أن القوات الأمريكية أدت مهامها القتالية بكفاءة عالية.
وأن نسبة الخسائر الناجمة عن النيران الصديقة تبدو مرتفعة عندما يفشل الأعداء في إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الأمريكية كما يشير جوري إلى زيادة الخسائرالناجمة عن النيران الصديقة أثناء القتال الليلي لأنه على الرغم من قدرة القوات المقاتلة على الرؤية الليلية بسبب المعدات الحديثة فإنهم لا يستطيعون دائما تحديد هوية الأشخاص كما فقدت القوات البريطانية وباقي قوات الحلفاء عدداً من جنودها خلال هذه الحرب بسبب نيران صديقة بالإضافة إلى إصابة آلاف الجنود بمرض «أعراض حرب الخليج» والذي يعتقد العلماء أنه ناجم عن بعض الأنشطةالعسكرية أثناء الحرب مثل تدمير مستودعات الأسلحة الكيماوية العراقية أو التعرض للاشعاع الناتج عن استخدام قذائف اليورانيوم المستنفد المضادة للمدرعات من جانب القوات الحليفة ضد الأهداف العراقية وهذه الأرقام تختلف تماما عن أرقام خسائر النيران الصديقة خلال الحرب العالمية الثانية أو الحرب الأمريكية ضد فيتنام حيث كانت النسبة لا تزيد عن ثلاثة في المائة من إجمالي الخسائر في حين زادت النسبة خلال حرب الخليج إلى 17 في المائة من إجمالي الخسائر الأمريكية.
وقد وقعت أغلب هذه الخسائر أثناءالمعارك البرية وفي المعارك العنيفة بين المدرعات حيث كانت النسبة الأكبر للخسائر في صفوف المركبات الأمريكية ناجمة عن نيران صديقة أيضا.
النيران الصديقة!
والمثير أن التطور التكنولوجي والتفوق الأمريكي يمكن أن يكون سببا مباشرا في زيادة حوادث النيران الصديقة فعلى سبيل المثال وفي ظل استخدام أشعة الليزر وأجهزة نظام تحديد الموقع باستخدام الأقمار الصناعية فإن القوات تميل إلى مزيد من الثقة أنها تستطيع الاقتراب من قواتها الصديقة بصورة أكبر وهنا يزداد الخطر ومن بين الأمثلة على ذلك ما حدث في أفغانستان بعد فترة قصيرة من دخول القوات الأمريكية هذه الحرب حيث سقطت قنبلة أمريكية تزن ألفي رطل بالقرب من أحد السجون في مدينة مزار شريف مما أسفر عن إصابة عدد من الجنود الأمريكيين وجنود التحالف الشمالي الموالي لأمريكا أثناء معركة للسيطرة على هذا السجن.
وقد وقع هذا الحادث نتيجة قيام جندي أمريكي بتغيير بطاريات جهاز تحديد الموقع باستخدام القمر الصناعي والذي يوجه القنبلة وإهمال الجندي إعادة تحديد الإحداثيات الخاصة بالجهاز وهو ما يعني أن القنبلة التي ألقتها طائرة أمريكية ذهبت إلى مكان وجود القوات الأمريكية وحلفائها بدلا من السقوط فوق مكان تواجد الأعداء.
يقول جون بيك مدير مؤسسة جلوبال سيكيورتي في واشنطن ان هناك مجالاً واسعاً لمثل هذه الحوادث لأننا لم نعد ننتظر حتى نرى بياض العيون قبل إطلاق النار على الأعداء.
ففي مثل هذه الحالة يصبح هناك احتمال كبير للخطأ في تحديد هوية الأهداف علاوة على ذلك فإن الطائرات المقاتلة أصبحت متقدمة تكنولوجيا ومعقدة جدا لدرجة تزيد من الخطر لآن الطيارين سوف يواجهون أوقاتا صعبة في إدراك كل شيء سواء داخل قمرة الطائرة أو خارجها ويتذكر أحد الطيارين الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية كأحد قادة الطائرة المقاتلة إف 18 ذات المقعد الواحد أنهم طالبوا بتزويد هذه الطائرة بمقعد ثان يسمح بوجود مساعد إلى جانب الطيار حتى يتمكن من متابعة بعض الأشياء خارج الطائرة ولكن للأسف اقتراح هذا الرجل ورفاقه واجه رفضا من زملاء آخرين قالوا انهم قادرون على قيادة طائراتهم بمفردهم والواقع أن طائرات إف 16 ذات مقعد واحد هي قامت بقصف القوات الكندية في أفغانستان في إبريل الماضي في نفس الوقت فإن بعض المراقبين يقولون ان الجيش الأمريكي لم يبذل الجهدالمطلوب لتطوير أجهزة يمكنها التمييز بين القوات الصديقة والقوات المعادية على الأرض.
نيران مهلكة:
يقول مايكل أوهنالون الخبير العسكري في معهد بروكنجز الأمريكي ان بعض أفرع الجيش الأمريكي تعطي أحيانا أولوية قصوى لاستخدام التكنولوجيا المتقدمة من أجل توفير نيران مهلكة بدلا من توفير وسائل تتيح للقوات الأمريكية أن تتحدث وتتعرف على الآخرين وخاصة من الأفرع الأخرى للقوات المسلحة ويضيف أنه من الواجب الاهتمام بتطوير وسائل الاتصالات بين مراكز القيادة والسيطرة بنفس قدر الاهتمام بتطوير القدرات النيرانية المهلكة لهذه القوات وهناك أيضا ملحوظة أخرى تتمثل في ميل الجنود المعاصرون إلى إطلاق نيران أسلحتهم أكثر من الجنود في الماضي وتشير الدراسات العسكرية إلى أن أقل من نصف الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية أطلقوا نيران أسلحتهم على الأعداء في حين أن المؤرخ العسكري إس إل أيه مارشال يقول ان نسبة هؤلاء الجنود الذين أطلقوا رصاص أسلحتهم على الأعداء خلال الحرب العالمية الثانية لا تزيد عن 25 في المائة وتفسر دراسات أخرى هذه الحقيقة بالقول انه إلى جانب الخوف وافتقاد التدريب الكافي هناك سبب آخر كان يمنع الجنود من استخدام أسلحتهم وهو أنهم كانوا يعتقدون أن قتل أي إنسان حتى ولو كان عدواً وفي وقت الحرب ليس بالأمر الصحيح ولهذا فقد غيرت وزارة الدفاع الأمريكية برامج تدريب الجنود بحيث يطلقون النار بطريقة رد الفعل السريع وليس بطريقة التفكير المتأني وذلك من خلال مجموعة من الأشياء بينها استخدام أهداف رماية على شكل بشر بدلا من الأشكال الدائرية التي كانت تستخدم في تدريبات الرماية وهذه الطريقة زادت بالفعل من قدرة الجنود على القتل لكنها في الوقت نفسه تجاهلت مسألة البعد الأخلاقي لدى الجنود وقد كتب الضابط الأمريكي بيتر كيلنر في العدد الأخير من مجلة «ميلاتري ريفيو العسكرية التي تصدر عن كلية القادة والأركان بولاية كينساس» أن الجنود مطالبون الآن بالتصرف بدون التفكير في المضاعفات الأخلاقية لأفعالهم وبذلك أصبح هؤلاء الجنود قادرين على القتل بدون اتخاذ قرار واع بهذا القتل.
فما هي النتيجة؟ ارتفع معدل إطلاق النيران في الحرب الكورية خلال خمسينيات القرن الماضي بنسبة 55% مقارنة بمعدله خلال الحرب العالمية الثانية وزاد بنسبة 90% خلال حرب فيتنام ومع زيادة معدل إطلاق كل جندي للرصاص أثناء الحروب تزداد مخاطر التعرض للنيران الصديقة والحقيقة أن حوادث النيران الصديقة تلك هي محصلة لمجموعة من العوامل مثل زيادة معدل إطلاق النيران المهلكة من جانب الجنود وسهولة أراضي المعارك وتعقد أنظمة الاتصالات والتشوش والغموض الذي يحيط بالحرب كل هذا يؤدي إلى زيادة ضحايا النيران الصديقة يقول ماركوس كوربن كبير المحللين في مركز المعلومات العسكرية بواشنطن ان مثل هذه الحوادث باستمرار تكون مجرد فعل لخطأ فردي أو بيئة العمليات. ويتساءل كوربن عما إذا كانت المعدات أصبحت معقدة جدا أو أنها تقدم معلومات كثيرة جدا بحيث لا يمكن تحليلها بطريقة فعالة في ظل ضغوظ القتال؟ وهناك قلق كبير بين القوات الحليفة لأمريكا بشأن مدى اهتمام أمريكا بالحد من حوادث النيران الصديقة التي غالبا ما يدفع ثمنها هؤلاء الحلفاء ومن بين هؤلاء الحلفاء دول قد تحارب إلى جانب أمريكا في الحرب المحتملة ضد العراق.
وقد اتهم مؤخرا اندريو لاربنت القائد البريطاني السابق أثناء حرب الخليج وزارة الدفاع الأمريكية بالإهمال الخطير والفشل في انتاج نظام يساعد في تحديد دقيق للأصدقاء والاعداء لمنع سقوط ضحايا من الحلفاء بنيران أمريكا.
وكان لاربنت يقود وحدة بريطانية أثناء حرب تحرير الكويت وقد رأى تسعة من جنود وحدته يقتلون و12 يصابون إصابات خطيرة عندما هاجمتهم طائرة أمريكية عن طريق الخطأ وفي رسالة بعث بها لاربنت إلى صحيفة ديلي تيلجراف البريطانية قبل أيام قال: يجب على قادة الأركان والسياسيين البريطانيين أن يدرسوا بعناية هذا الامر وماذا سيقولون للشعب إذا ما سقط المزيد من الجنود البريطانيين ضحايا لمثل هذه الحوداث.
وهذا تحذير وصل إلى أسماع المسؤولين الأمريكيين أيضا.
(*) خدمة كريستيان ساينس مونيتور
|