خلف نصف جدار طيني متهدم، كان الفتى ينزوي منذ البارحة.. يسند ظهره المتصلب على بقايا الجدار ويقذف برأسه الفارغة من كل شيء إلا الأحزان والذكرى البائسة بين يديه يحتضنه بعنف الغاضب براحة كفيه يخنقه بين ركبتيه ثم ما يلبث حتى يرفعه بتثاقل الى الأعلى لتلاقي مقلتيه سواد السماء فلا يجد بداً من إلقائه أرضاً من جديد!!
كان طارق يراقب صديقه حاتم من بعيد لقلقه عليه فصحته وحالته النفسية متدهورتان جدا، وهذه حالة منذ أسبوع. أسبوع مضى على وفاة أبيه التي تسببت بها رصاصة صهيونية.. طائشة!! هكذا يقولون طائشة.. ولا يدري أحد تحديداً من المتسبب وما الذي حصل فعندما تكون الضحايا من الجانب الفلسطيني غالباً تُقيّد القضية ضد مجهول!.
ذهب طارق الى حاتم وهو جالس جلسته تلك خلف جدار بستانهم يعبث بغصن زيتون..
- يا حاتم أما تفتأ تبكي؟ ألم تخمد فورة غضبك بعد ولو قليلا؟ أولم تجف آبار دموعك بعد يا صديقي؟ بالله عليك كفاك الحزن يقتلك بل يقتلنا سوياً أنت تعذب نفسك وتحمِّلها ما لا تطيق. حاتم إيمانك أقوى من هذه العواصف.
رفع حاتم رأسه ونظر إلى طارق بعينين غائرتين بعد ان تنهد تنهيدة كأنما تصعدت روحه معها الى السماء..
- إني أشتمُّ رائحة الدم يا صديقي كل لحظة، أسقي به البستان. أتنفسه بين جزيئات الهواء، أُبصر به الأشياء. حتى... حتى فستان فاتنتي وعروسي المرتقبة «بسمة» أراه يوم عرسنا أحمر قانيا!! لا.. لا.. لا لا لا ليس بحمرة حبات التوت ولا ثمار الكرز.. إنما ببشاعة لون الدم المسكوب.
- حاتم أنت مؤمن بقضاء الله وقدره وابتلائه. ما تمر به الآن كآبة عابرة.. غيمة حزن زائلة أنا متأكد. كلنا نقدر ما عانيت وما تقاسي الآن. وأقولها من قلبي يا رفيقي، فنحن نعيش في نفس الظروف ودماء أبيك ومن قبله أخيك تجري في عروقي كما في عروقك. كلنا سُقينا من هذا الكأس المر.. نتجرّع العذاب كل يوم وثانية. لكن يجب ان تستمر الحياة بمرها وحلوها وان قل. ليشتعل فتيل المقاومة والنضال من جديد ويكرمنا الله بنصره الموعود. هذا ما نؤمن به ونردده دائماً أليس كذلك؟
- نعم.. نعم صحيح «قالها بصوت كأنما خرج من غياهب جب ثم تنحنج في محاولة لإعلاء صوته قليلاً وإيضاحه»..
- قد لا تفهمني يا طارق وتستغرب كلماتي.. ما ينغص عليَّ الآن ليس فراق قرة عيني أبي ومن قبله ليس ببعيد توأم روحي أخي، فعاجلاً أم آجلاً سأدفن حزنهم في صدري أو أُدفن أنا معهما.. ليس هذا ما يشغلني بل هي.. أنا.. أنا «تردد وتلعثم، ثم سكت هنيهة».
- أنا مشوش جداً لا أدري ماذا يريد مني؟! تتراءى لي رؤى مقززة.. أراه أمامي بطلاً صامتاً فيها يتبختر هنا وهناك.. إنه الشيطان بكل بشاعته يا طارق! يخيل إليَّ اني اراه ها هنا أمامي متجولا في كل مكان يطل برأسه على كل ما تقع عليه عيناي. يعبث بلا مبالاة بكرامتنا المراقة دماً سائباً على الأرصفة والطرقات، بأعراضنا المنتهكة جراحاً نازفة، أراه في بعض العيون اللامعة الوضاءة. أتدري؟ هي مجرد انعكاس لوهجه ليس إلا!!.. حتى صمت العالم اجمع من حولي لم يسلم من شره فهو الذي احكم الحصار عليهم. وعندما يبدأ عرضه المشين أمامي اتمنى اقتلاع عيني من شدة الاشمئزاز! فأدعكهما بقوة لتتزغلل الرؤيا فيختفي بذلك قليل من ملامحه المشوهة. ولو كنت رساماً لرسمت صورته الآن، ولن أحتاج الى شراء ريشة، سأصنع واحدة بضفائر ابنة الجيران. ولن أحتاج الى ألوان، سأستخدم دم أبي وأخلطه بدم أخي ثم أضيف عليهما بضع قطرات من أدمعي السخية.. هكذا يزيد اللون نقاءً وتزداد الصورة بهاءً. أنا مرهق مرهق مرهق.. ترى هل تلبسَّني جان؟!!
استقبل طارق كلمات حاتم بدموع ساخنة كتمها صرخة مدوية في صدره وتفهم كلمات صديقه حاتم .تفهمها عميقا كما يفعل ندرة من الأصدقاء. ثم أمسك بيد حاتم وشدّ عليها ثم ساعده على النهوض. غادرا المكان سوياً بعدها نحو المسجد لأداء صلاة الجمعة..
يا ترى هل يسوق القدر في هذه الأثناء حمامةً بيضاء تلقف غصن الزيتون الملقى خلف الجدار لتملأ به الفراغ في أعلى لوحته.. أم يظل مكانه عارياً حتى يجف وينكسر؟!
|