|
|
كل يوم تطلع فيه الشمس يطلع معها مشروع فكري أو ديني أو سياسي أو اجتماعي، ويطلع معه خليون يتعهدونه بالاشاعة والتأييد والتنطع. والطاعم الكاسي يقعي بفؤاد هواء، يرقب ما يأتي، مما هو بحاجة إليه، ومما ليس بحاجة إليه، فالمستهلك الخاوي عروش الفكر والمعرفة يبحث عن ملء الفراغ، ولو بالفراغ، مثله كمثل الهرة الطوافة بحثاً عن خشاش الأرض. والاشكالية ان المقعين والمقوين يعدون أنفسهم من النخب: الفكرية والدينية والسياسية والأدبية، ممن هم صفوة الصفوة، ومعتصر المختصر. ومع أنني حفي بالمستجدات، حريص على توفر كامل الحريات والحقوق، ومع قطعي بأن المشاهد العربية بكل تنوعاتها بحاجة أمس إلى المؤسسات بكل أنواعها: - الدستورية والشورية والتشريعية والتنفيذية وغيرها فإنني أراهن على أن المجتمع العربي يجتر القيم والمبادئ الغربية كما «اللبان» ولا يبلع إلا ريقه، فحكم الفرد، وتسلط الطائفية والفئوية والحزبية واحتكار السلطة من أدواء المجتمعات النامية، وهي أحوج ما تكون إلى الأدوية الناجعة التي تتحول بها من الفردية إلى المؤسساتية، ومن الأثرة والاستئثار إلى الشورى والمداولات والإيثار، ولما لم أكن سكونياً ولا ماضوياً، ولا مأخوذاً بعقدة الأبوية ولا خائفاً من التجديد، فإنني أمقت الذواقين الفارغين الذين لا يستقرون على قرار، ولا يؤسسون لفكر، ولا ينهضون لتحرير قضاياهم والتأصيل لها، ولا يصبرون على ثوابتهم، ولا يعرفون ضوابط الحرية ولا مستوياتها، وكل فعلهم أن يتلقوا ركبان المستجدات، ليأخذوها بالأحضان، ثم لا يترددون في إراقة مياههم كلما تراءت لهم سرابيات القيعان، وإذا أبديت امتعاضك واستياءك وطلبت التريث والتثبت والأخذ بأحسن ما عند الآخر، قالوا لك:- إنك جمودي مقلد متخوف، لا تريد لهذه الحياة أن تسبح في آفاقها المتاحة. ولو أن أحدنا نظر إلى ما حوله من المذاهب والظواهر والتيارات الحاضر منها والباد، لهالته كثرتها، وراعه تناسخها، وأزعجته الجهود والأموال والأوقات المهدرة في سبيل استقبالها واستدبارها، دونما رشد أو تثبت في الحالين. ولكل أمة وجهة وهاد إليها، ولا تكون الأمة أمة، ولا تستكمل مقومات وجودها إلا إذا كان هداتها على بينة من الأمر، يعرفون الثابت والمتحول، ويردون الاختلاف إلى ما أمروا بالرد إليه، ومتى وجدوا الدليل القطعي الدلالة والثبوت استجابوا لله وللرسول دون أن تكون لهم الخيرة، ومع التسليم والرضى فليس هناك ما يمنع من استقبال فيوض الحضارات والأخذ بأحسنها ولكن بعد وعي عميق للذات وللآخر، وبمعرفة تامة بحاجات الأمة وطاقاتها، وبما يصلح لها من تلك الفيوض. ومرحلة الغثائية، لا تتحقق، ولا يتمكن الأكلة من التداعي عليها إلا إذا فقدت الأمة مقوماتها الحضارية، وسادها جهالها، واتبعت سنن من كان قبلها. والرسول صلى الله عليه وسلم الحريص على أمته حذرها من زمن «الغثائية» و«تداعي الأمم» على قصعة الحضارة و«اتباع سنن الآخرين» و«كثرة الهرج» و«التقاء المسلمين بسيفيهما»، ومن نظر بعين البصر والبصيرة في الفتن واشراط الساعة وعلاماتها التي أجملها الرسول صلى الله عليه وسلم أيقن أنها حاضرة، يديرها القوم فيما بينهم. ومما نعايشه الآن من مستجدات الغرب الضاحك علينا بمئل شدقيه «العولمة» و«الارهاب و«حقوق الانسان» ولما تزل مشاهدنا كمطارح الفتن، تتناثر في أرجائها أشلاء المذاهب والعقائد والأفكار، فيما تنحسر المعارف الانسانية والعلوم التجريبية والحقائق العلمية، لقد نشبت فيما بين الأخ وأخيه والجار وجاره حروب: باردة وساخنة، حول «الماركسية» و«القومية». وما أن أذعن لها المغلوبون على أمرهم: طوعاً أو كرهاً انشقوا على أنفسهم، وأعادوا التنازع جذعة حول المفاهيم والأولويات، حتى لقد وصف المنشقون سلفهم بالردة والتنكر لمبادئ الحزب، وقامت عشرات الثورات البيضاء والحمراء من أجل تلك المفاهيم التي لم تبلغ التراقي. وإذا كنا جميعاً لا ننكر ذلك، ولا يجهل أحد ما خسرته الأمة من رجال وأموال ومثمنات في سبيل هذا التطاحن لزم إعادة النظر فيما هو آت، وهل أحد منا يجهل التبذير المسرف للأموال والجهود والدماء والمقدرات من أجل تكريس مذهب طارئ أو عقيدة زائفة، وما على المتردد إلا أن يقرأ التاريخ الحديث للأمة العربية من ثورة «حسني الزعيم» إلى اليوم، ليعرف كم من كفاءات بشرية ومثمنات: حسية ومعنوية أريقت تحت أقدام المستجدات، فاضت المنافي وامتلأت السجون واكتظت المقابر، وما استقر أحد من هذا العالم النائم المتخلف على نحلة أو مذهب. والأمة التي زين لها سوء عملها لا تعيد قراءة التاريخ، ولا تقّوم الأحداث، ولا تتأمل أحداثها وحوادثها الجسام قبل الاستقبال أو الاستدبار، وحين لا يكون للأمة ذاكرة، ولا مركز معلومات، ولا حكيم يتولى أمر الصدور والورود تظل في حالة من النزيف الدموي الذي يدخل بها مرحلة الغيبوبة ثم الموت الزؤوم. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |