لن أتطرَّق إلى ما قاله العرب عن الإكثار من التأليف، كما لا أغفل مدى ما كان عليه العربيُّ في التأنِّي، والتَّدقيق، والعناية بمصنَّفاته، وحرصه التام على أمانة الأخذ، وكذلك على الفصل بين ما هو له وما هو لسواه، حتى أنَّنا نجد الصفحات المحبَّرة بالإسناد، تطول سطورها وليس فيها إلاَّ تسلسل..، وتوالٍ في الآخذ عن، والمأخوذ منه، سواء في كتب الأحاديث حرصاً على صحَّتها وثبوتها وتوثيقها، وانتقالاً بهذه الأمانة إلى كتب الأدب، والعلوم، والمعارف المختلفة...، حتى إنَّ هناك من المصنَّفات ما وضعت في «النحَّالين»، وفي السرقات بما فيها سرقات «المعاني»، فكيف يكون الحال بإغفال «المعلومات» العلميَّة أو الفكريَّة، أوحتى التطاول على أفكار الآخرين دون إسناد...
إنَّ التَّأليف ليس فرحة، فهو إثبات بصمة لكلمة، لخطوة، لقول، لفكر، لموقف، لتوجُّه، بل حتى لمشاعر الإنسان ومواقفه النفسيَّة...
التَّأليف شاهد صدقٍ أو شاهد تزوير...
والعربيُّ كان يغرف من معينه، ولا يرضى أن يمتح من معين غيره، فإن هو فعل لتعزيز موقف، فإنَّه يحرص على جعله واضحاً صريحاً...، وأذكر أنَّ التعليق على موضوع في كتاب ما كان العربيُّ يخرجه بطريقة تليق بتوثيقه، فهو يشترط وضعه في الأعلى بالإشارة إلى موقع التعليق أو الإضافة في حاشية جانبيَّة إلى أعلى الصفحة ضماناً لعدم خلط الحواشي والتهميشات من قارئ ذي تعليق إلى قارئ آخر لكي يتيح في الصفحة الواحدة فرصة لسواه إن عنَّ لهذا الآخر أن يعلِّق أو يضيف.
غير أنَّ الإقبال على التَّأليف في عصرنا أصبح تظاهرة...
ما حسن منها فهو إضافة..
وما غثَّ منها فهو عناء...
وما صدق منها فهو شاهد لصاحبه، ومرحلته،
وما زُيِّف فيها فهو شاهد على صاحبه... وتزوير لحقائق مرحلته...
فكم وجدنا من يؤلِّف فيما لا يدري، يمتح من نهر غيره، ويصبُّ في زوَّادته...
فكيف إذن تأخذنا وقائع على ألسنة أقلام من لا يعيشها...، وكيف إذن نسجِّل للمؤلفات الكثيرة والكثيرة شواهد الصِّدق في زمن يكتب فيه الفقير عن الِغنَى، ويتناول فيه الجبان عن البطولة، ويدِّعي فيه الحقيقة من تغيب عنه؟ وتأخذنا طيور الأحلام إلى مدن لم يرتد مجرد الخيال فيها من يرسمها؟!.
|