لا أحب أن أذكر اسم الفنان لأسباب متعددة منها أنه ما زال حيا وشبه معتزل. ومنها أنه من الفنانين القلائل الذين يلجأون إلى أيديهم الفولاذية لفض النزاعات وتسوية الاختلافات في وجهات النظر. من باب التأريخ أفكر أن أعطي اسمه لمكتبة الملك فهد مرفقاً بهذه القصة على شرط ألا تنشر مقرونة باسمه إلا بعد مرور مئة سنة.
قبل سنوات طويلة أقام نادي النصر حفلاً بمناسبة فوزه ببطولة من البطولات. وقد دعي هذا الفنان لإحياء الحفل. وقدر لي أن أندس بين الجماهير لأكون في الصفوف الأمامية وأكون قريباً منه. من مميزات هذا الفنان أنه إذا بدأ يغني ينسجم مع الأغنية إلى درجة أنه ينسى ما حوله وكأنه في طقس من طقوس اليوغا. كما أنه شديد الحساسية تجاه المقاطعات والتعبير الجماهيري غير المرشد. لا أعرف من أين جاء بهذه الرؤيا المميزة. فمن عادة الفنانين في ذلك الزمان الصراخ لتهييج الجماهير. فالفنان في الماضي إذا رأى أن الجمهور بدأ يهدأ من الرتابة يقطع بشكل مفاجئ انسياب الأغنية ثم يخرشهم بتقاسيم على العود. وإذا أحس أن العود لا يوقظهم من سباتهم صكهم بموال حجازي يمزق به طبلات الأذان. وإذا لم ينفع معهم الاثنان عاد إلى أحد مقاطع الأغنية التي شعر أن الجماهير استجابت لها. وإذا لم تنفع هذه الوصفات المجربة يدخل في أغنية ثانية دون أي ترتيب مع الفرقة.
من المعروف في ذلك الزمان أن هناك فرقة واحدة تسيطر على السوق تعرف بفرقة التلفزيون. تراها في التلفزيون وفي الحفلات وأينما يوجد شيء اسمه موسيقى. كل من يهتم بالفن يعرف أن تلك الفرقة كانت على خصومة شديدة مع فناننا.
المهم اندسست بين الجماهير حتى بلغت الصفوف الأمامية. لم يبدأ الحفل. كان هناك بعض الفنانين المتسببين يستعدون لأداء وصلات تمهيدية لحين وصول فناننا الكبير. في الوقت الذي صعد فيه أحد المتسببين أن يجرب حنجرته لكنه دندن على العود قليلاً ثم انسحب دون أن يحس به أحد. ما أن اقترب فناننا حتى صاحب الجماهير وحيته من كل قلبها. حيا الجماهير «في ذلك الزمان كان الفنان ينحني لتحية جماهيره». وبعد أن أنهى التحية التفت على الفرقة. لم أسمع ما قاله لهم ولكني لا حظت بعد أن أعاد وجهه ناحية الجماهير أن أعضاء الفرقة يتغامزون. تنحنح «من عادة فناني زمان النحنحة». الله أعلم تقليداً لمحمد عبدالوهاب. ثم بدأ يدوزن العود. مرة يضع رأسه على العود ليسمع أدق النغمات ومرة يرفع رأسه ويشد على الوتر ومرة يلتفت على الفرقة. وفي أحيان متفرقة يضع قبضة يده على فمه ويتنحنح نحنحات صغيرة متفرقة. من الواضح أنها تعبر عن التوتر أكثر من مجرد تسليك الحلق. اختلط دوزان العود مع الهمسات الموسيقية التي تنبعث من الآلات الموسيقية جراء التعابث الرقيق لأصابع أعضاء الفرقة على الآلات التي بين أيديهم. كان كل شيء في غاية الترقب. رغم أن الجماهير هي جماهير كورة ومن المتوقع أن تنفجر في أي لحظة، صرخات أو هتافات أو حتى مضاربات إلا أن التعابث الخافت للموسيقى جعل الناس في حالة ترقب انتشائي كمن يدخل غرفة اختفت منها امرأة غارقة في العطور.
البقية بعد غدٍ
فاكس: 4702164
|