Monday 20th January,2003 11071العدد الأثنين 17 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

استراحة داخل صومعة الفكر استراحة داخل صومعة الفكر

* للجراح ريش، وللرياح وكر
* حمد حميد الرشيدي
* 71 صفحة من القطع المتوسط
أدبيات الشعر جرس، وموسيقى، وايقاع، وقبلها وبعدها فكرة نابضة بالحياة تعجن الصورة وتخبزها وتقدمها للمتلقي طبقاً شهياً يسهل ازدراده وهضمه حتى ولو جاء ذلك الطبق الشهي جراحا منفوشة الريش.. ورياحا تسكن وكرها كي تهب في وجه السكون القاتل..
أدبيات الشعر وادواته.. ومضامينه.. أولا قبل كلماته.. رغم ان كلمات الشاعر لا بد وان تجيء موهبته بجمالياتها.. ورصدها للمشاعر مستثيرة.. ومستنيرة.. ومتمردة على جمادية الحرف.. وضبابية الفكرة.. ماذا عن شاعرنا الرشيدي مع جراحه.. ورياحه..؟ أين تكمن ضراوة الجرح؟ والى اي مدى تظل الريح ساكنة ساكتة؟!.
بدايته ترنيمة وطن.. وهل أحلى من معزوفة أوتارها الانتماء! وانغامها تتناغم حول التراب والتراث، والأرض؟ لنستمع اليه وهو يعفر بوجهه تراب الوطن حبا.. واشتياقاً. والتصاقاً:


«أقم للشعر أمسية
منابرها السعودية
وغن لمجد هذه الارض
ملحمة بطولية
وقبِّل ايها الشادي
طهارتها الترابية
تيممها صعيدا طيبا
يخضر قدسية»

انها الأرض التي سكنت حتى النخاع.. ربيعها استعصى على الرياح.. وايمانها اقصى بذور الشرك.. وماضيها الرجولي أثبت دعامته.. بل وشعرها الخليجي اكد جدارته.. هكذا تقاطعت الألوان في لوحته الرشيدة التي رسمها حبا لوطن ينتمي اليه..
ان على شفتيه ووسط فمه أكثر من نداء.. يخاطب بها من يسرج الخيل على فنجان قهوة في ليل شتوي حول منقل جمر:
«هاك وجها في عيون الليل خدش يتسلل


هاك قلبا عربيا يتشظى..
بين ذبيان وعبس»

لقد سرح به خياله نحو مضارب البدو.. وما ترمز اليه من كرم وبطولة وجلاء إلا انها لا تخلو من صراعات وثأر..
«أنت يا من تستحث الخيل في حلبة «يعرب»


لا تصفق لا تصفق
لا تقل «داحس» يسبق
او به «الغبراء» تلحق
دعهما يا صاحبي
يئدا الاحقاد في ميداننا
لا تجدل عقد الثارات في احفادنا»..

حسنا جاءت الدعوة.. فلا جماجم ولا تمائم.. ولا قهر ملاحم لأن الأمس امسه واليوم يومه وعقارب الساعة تدور الى الأمام.
الرشيدي ببداوته المتحضرة المتطورة يكره الصعاليك.. وينبذ الصعلكة..:


«يا بنت الجلاد الأسود
في بيتكم الأسواط تنض دما»..

حسنا لو قال «تنز» دما عوضا عن مفردة تنض ..ويمضي بنا في خطابه الشعري الثائر:


«العمر يشيخ على أبواب مدينتكم
والدرب عنيف مثل ابيك الفظ المستعبد..
بالله عليك اغيثيني
اني بدوي رحال
من حرة خيبر، حصن التاريخ الحجري
لا املك غير عصاي، ومسباحي
هاتي سلكا من سوط أبيك الارهابي
هاتي من شاربه ابرة
خيطي ثوبي المقدود على ظهري
ذري قيصوم الحرَة في بقيا نفسي..»

لم يكتف بكل هذا وانما امعن في طلباته لتجد من نبضه اصداء لسواني بئره الناضبة دون ماء. ولتغني له عن ذكريات أهله التي لا يعرفها.. ويشخص عينيه في وجهها قائلاً:


«دعيني المح في عينيك السوداوين ليالينا
في منتصف الشهر القمري.. وتغنينا»

هل كان ينتظر منها اجابة او استجابة بعد كل هذا الهجوم، والتحدي.. ومن ثم الاستجداء..؟! ابدا.. لقد بدأها بلهجة ساعقة.. اسمع بنت الجلاد الاسود ما لا تريد سماعه.. وكان عليها ان تغضب لغضبه.. الا تستجيب.. لقد تركته صامتا يهرش شعر رأسه على وقع صدى غضبها الذي ترجعه في صمت..
ومن «الصعلكة» الى «حمى الليل» يحرك خطواته المثقلة بالخوف:


«ويأتي الليل محموما..
وئيد الخطى..»

بل انه شديد الخطر يا صديقي.. ألست القائل في مباشرة لا هدنة فيها:


«يغشى حيِّنا الشرقي
بأجنحة غرابية

وفي جيب الغروب يدس قرص الشمس
فتندثر الشوارع تحت أشلاء الدجى الحالك
فتغمدها.. وتخنقها..
تشل شعورها بالنور والمستقبل الفجري
فيجثو الصمت مقهورا على العتبات..»
بل انه يذوب في دوامة الهذيان والرعشات.. ويحتضر.. ومن موت الى احتضار لموت آخر.. آه من حياة شعرية ترقد في أكثر من قبر لأكثر من فاجعة:
موته موت غربة.. غربة حب وُلد، ثم تمرد وانطفأ مصبوحة:


«وأدت حبك في اصداء حرماني
خنقت آهاته في طي كتماني
قتلت كل أحاسيسي تذكرني
فيه فلا تظلمي اني لها الجاني
انا الذي لهثت اشواقه زمنا
على شفا حفرة من نار خلاني»

ويمضي في اعترافاته.. كيف الذي سره بالأمس مجرد سراب.. او سرداب مظلم لاضوء للحب فيه يطلق معه صرخة لقاء لا عودة فيه:


«اذهب فإنك وجه لست اذكره
فما الذي بغريب الوجه اشقاني؟!»

انه الحب الاعمى من طرف واحد.. انه الغريب وانه الغربة في متاهات الحلم الذي لا يتحقق..
ويبدو ان محاولاته لا تتوقف عند حد.. لقد استوقفه الرصيف الثاني بحثا عن حلمه الضائع دون جدوى.. دونها وحدها الجراح بريشها.. والرياح بوكرها:
«كلما هزت رياح العشق جذعا
قلت اني


ألمس الأرض. وانفاسي جناح
وجراحي.. بعض ريش ساقط
من على وكر الرياح..
واراك حين تأتين الي
من بعيد.. من بعيد
هاجسا ينفضني
يطرق الوحشة في غيهب روحي
فاسكنيني بعد هجر، ووله»

هاجس الخوف هو سلطانه المستبد المسيطر على مشاعره.. كيف الفكاك منه؟ إنه يلازمه ملازمة الظل لا يبرحه.. ومع هذا مازال يصر انه ليس وحده عندما يلمس جرحه بأنفه الخرساء وشظايا صرخته التي لم تنفجر.. ودموعه المتحجرة التي لا تنهمر.. مسكين شاعرنا انه شاعر الحزن.. والصمت في الحب المشاع
«صرنا نشازا يا رفيقه
كأصابع الزمن المشيرة نحونا
إذ أسرع العشق الكسيح على ارتعاشتنا طريقه»
طريق طويل من التوجع قطعه شاعرنا على جادة الحرمان دون ان يتوقف ولو للحظة واحدة يلتقط فيها انفاسه.. يبحث عن الحقيقة حتى ولو كانت مرة: ويطرح السؤال انتظارا لجواب لا يدري كيف يأتي:
«لا تسألي أين الحقيقة؟!
لا تمضغي في لكنتي هذا السؤال
أنسيت ان الصمت في الحب المشاع؟
يا ارحب الآفاق حتى في حناياي السحيقة
كوني من الأفواه اكبر
لا تجهضي شفتيك كالحناء في زمن العنوسة
إذ طأطأ الصمت المعتق في ترهلنا رؤوسه
هذا زمان صار فيه الرأس يعصب بالصداع»
إنه كمن يتداوى بالذي كان الداء.. دون ان يحفل صداع رأسه او يخف.. مالنا ونكهته في امسه ويومه.. لقد عرفناها منه.. وعركناها على يدي ريشته البارعة.. حتى ولو جاء، الاعتراض منه حازماً جازماً.. ان تضاريس وجهه الراحل لا يسلو.. لا يملك الخلوة.. ولا اللحظة الحلوة.. آه كم سأل دمعته وهو يشاهد في وجع افقه الاقرع يرتدي بدلة ضابط وقد اضاع هو الأدلة.. لقد ضاع! رغم وعورة مسلكه لا أملُّ من ملاحقته.. والتوقف معه وهو يقرأ في سفر ابن يعقوب مخاطبا اياه:
«يا سيدي..
وللسجن في داخلي الف نافذة نصف مفتوحة
كأفواه تلك الذئاب البريئة من دمك المُدَّعى
رأيتك فيما يرى النائم
وكنت اقص عليك الرؤى
فتصغي الي..»
ماذا عساه أن يقول في حلمه؟!
كما أنت من قبل تصغي الى صاحبيك
وقد غادرا السجن وانتهيا
الى حين أوَّلتَ رؤياهما
فآخر يعصر خمرا
ليغدو ساقي الملك
وآخر يحمل خبزا
على رأسه تأكل الطير منه
ليهلك فيمن هلك
وأما.. انا
فماذا عسى أن أكون؟!»
انتهت قصة يوسف.. وجاءت قصته هو.. او حلمه.. او كوابيسه مثقلة بالهموم.. انه كالضرير يتلمس عصاه وراء نوافذ سجنه.. وسراديب حزن متسائلاً:
«أما زال ذئبي الذي زعموه
على الأرض يرزق حيا؟!
وهل لا يزال حزينا علي..
فأعوي اليك
وتمسح شعري الذي يقشعر لبطش ذئاب البشر؟»
تراكمات وصور شاعرية جميلة وشيقة تنم عن قدرة ابداعية في التخيل اجادها شاعرنا الرشيدي ايما اجادة.. وعن سيدنا يوسف في مناجاته الى «سلمى التي كانت سليمى» في مناداتها: ان يذكرها بأبيها الذي كان صعلوكا ومات ونهشت كلاب الحي جثته من قبره.. ليعود الى مغازلتها:
«كم كنتِ الأحاديث التي تغنا بها السمار
في ليل بلا قمر
كثيراً.. آه يا سلمى
كم تحاشوكِ، ونادوكِ
«سليمى».. بعد ان كرهوا طفولتهم»
ويسترجع معها الصورة من جديد وهي تعيش وحيدة مقطوعة من شجرة تعيش الجفاء وعقدة الاحقاد والتوحد، اذ لا ام، ولا عم.. وإنما غم وهم قاتل.. ونظرة جحود لا ترحم.. ان يرثي لحالها كحاله.. «الخروج من الذاكرة» خرجت من المذاكرة رغم جودتها.. ليست الوحيدة التي امكن تجاوزها رغم ثرائها الشعري فقصائد «لا لم يمت» رثائيه. و«ماء وماء» و«انتفاضة» و«طين حواء» و«بينهما» و«يوم وليل» و« اغنيات الرحيل» و«تحت الظلال»، قصائد تنبض بالحيوية والاشراق والعمق إلا ان مساحة الدرب تقترب من نهايتها.. وقبل ان تغيب الشمس لنتوقف مع مقطوعته الجميلة «حين يندى جبين الشمس»
« صلبوك في تلك المنابر
مسخوك فيها.
ظلموا فؤادك بالمشاعر..
وددت لو جاءت على النحو التالي «والمشاعر» ويسترسل قائلاً:
«حين قالوا انت شاعر
قذفوك في دوامة الورق المدور
والحبر احمر
فتبسموا كالدمية الجوفا، في احد المتاجر
يا ليتهم صلبوك في جذع النخيل
ليروا جبين الشمس منهم كيف يندى
لكنهم في عُبوة الحقد المرير تنازعوك
تبا لهم..
حتى من الموت الكريم تلقفوك ليحرموك»
وتأخذه العزة بالعزة ليصرخ في وجوه الأدعياء الذين يحاولون «قتل الأحياء لان الحياة لا تروق لهم.
آه لهم
ما أبشع الانسان حين يصير اجرأ من ذبابه
مسعورة بطنينها الشره استباحت حرمة لدم يسيل..»
ويُسَري أخيرا عنه كما لو انه يُسَري عن نفسه:
«هَوّن عليك
فإن فجرك سوف يُولد
ما انت إلا دمعة في مقلة رمداء وتحلم بالشفاء
هون عليك فإن للأوهام مهدا»
وعلى جادة الكلمة الشاعرة عيون لها لغة ولكل لغة عيون.. و«بُعد آخر» نستشرف من القصيدتين مساحة لا تخلو من رؤى فلسفية تأخذنا الى سراديب الحياة وتعرجاتها وتموجاتها.. ثم تفضي بنا الي نهاية الرحلة ما قبل الأخيرة.. لزومية من لا يلزم:
«لقد خانتك يا صاح التجارب
وغرتك الأماني بالمآرب
ظمئت فكنت اظمأ من سراب
ووجهك مبحر كشراع قارب
تقاذفك الرياح ولست تدري
أأنت الى مشارق أم مغارب»
نكهة.. كنكهة رهين المحبسين المعري إلا انها قصيرة النفس.. ولن يضيرها قصرها لأنها استوعبت أكثر من تساؤل يستحق الطرح يطال طباع الإنسان وانطباعه.. وبعد.. يا شاعرنا الرشيدي اشعر وانا اشاركك هذه الرحلة انني استمتعت كما لو انني شاعرها.. لأن مشاعرها تحمل الصدق.. والعمق بكل ما يشيران اليه من معنى.
ص.ب 231185 الرياض 11321

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved