إن العرب ملكوا الأرض ولم تملكهم ... هكذا قالها أحد الخطباء العرب لكسرى أنو شروان «مروج الذهب» ويضيف المسعودي قائلاً: «.. ورأت العرب أن جولان الأرض وتخير بقاعها على الأيام أشبه بأولي العز وأليق بذوي الأنفة، وقالوا: لنكون محكمين في الأرض ونسكن حيث نشاء..». لكأنما هؤلاء البشر تجاوزوا نواميس الطبيعة الأرضية.. فملكوها ولم تملكهم .. إنها فوضاهم.. «حريتي فوضاي» «محمود درويش». ولا أظن أن العرب كان لها أن تنتقي ما تشاء مكانا، بل ربما هي جغرافية العرب التي شاءت أن يكون الترحال السمة الناجزة لحياة بدوهم.. رحيل بعده رحيل بلا تراكم نوعي لمعارفهم أو ثقافاتهم أو فنونهم.. بل تراوح المعرفة الأولى نفسها!
ذاك زمان اندثر واستقرت بالمناخات الإبلُ. ولكن إذا استقرأ المرتحلون، فإن قيم البداوة والترحال قد تمتد حيناً من الدهر قبل أن تتلاشى بطيئا. وعمليات التنمية لن تزدهر دون تعديل سلوكيات الترحال والاستقرار الجزئي إلى سلوكيات الاستقرار الدائم. ومشاريع التنمية والتخطيط الاقتصادي الشامل لن تفلح دون وعي هذه السلوكيات في برامجها، خاصة إذا أدركنا أن غالبية المجتمعات العربية يهيمن عليها أو تأثرت بقيم البداوة.
وللبدو الرحل خصائص كثيرة، منها أن أعرافهم وتقاليدهم تكاد لا تتغير، يكون فيها الفرد حبيس الجماعة، مع شعور قوي بتماسك الأفراد. وعمليات الضبط الاجتماعي غير رسمية حيث النظام الأخلاقي هو النظام الأساسي الذي يربط أفراد المجتمع، ونظام القرابة والعصبية هو أساس النظام الاجتماعي.
وحياة البدو الاقتصادية مكتفية ذاتياً، يقل أو ينعدم فيها التخصص البسيط تقنياً، فالأفراد يتشابهون في المعرفة والخبرات، ودوافع العمل فيه ليست اقتصادية بقدر ما هي شعور بالمسئولية الجماعية وتقاليد مرتكزة على اعتبارات قرابية أو أخلاقية.
هذه الخصائص مرتبطة جدلياً أو عضوياً بالترحال كنمط معيشة وسلوك اجتماعي، وهي خصائص عامة مطروقة في غير موضع إنما هنالك خصائص تفصيلية عديدة قلما يمسسها قلم، منها الارتجال وارتباطها بضروريات الترحال.
وأظن أن الارتجال في اتخاذ القرارات المصيرية ناهيك عن القرارات الهامة والأقل أهمية، سمة ضرورية من طبعية الترحال، فعند استنزاف المرعى وبُعد الحلفاء، لا بد أن يقرر أعيان العشيرة وبصورة عاجلة إلى أين تكون وجهة الرحيل أو ربما الغزو.. لا وقت لثقافة فكرية، لا مكان لإجراءات إدارية، لا منفعة لعقد تاجري أو مقايضة زراعية.. الخطر محدق والخيارات محدودة والوقت ضيق، وينبغي أن تكون الاستعدادات جاهزة في كل لحظة لمواجهة الطوارئ.
هذه الجاهزية تعني أيضاً ارتجالاً في التعامل مع الخطر..
فعند توقّع تهديد خارجي لا بد أن يتم القرار الفصل بالمواجهة أو الهروب في بضع ساعات .. والسرعة في اتخاذ القرار يتبعها سرعة في تنفيذه والسرعة في التنفيذ تعني اعتباطية في الإجراء وفوضى في مناحي الحياة الأخرى.. ثمة حبلى آن مخاضها، ثمة طفل سقيم وشيخ مقعد، ثمة حزن يرخي بظلاله على هذا الرحيل..
اضطراب يدبُّ في مفاصل أصحاب القرار، فيغدو القرار ارتجالاً وعبثاً، ويغدو العلِمُ رديفاً للجهل، والتخطيط مشابهاً للفوضى! وتنتصر قيم البداوة والأمية، وتكون العزة للقبيلة المحظوظة، والمجد للمحاربين الأشاوس وللقصيدة التي تبقى على شفاه المتلاسنين!!
وعلى هذا النحو تسير أساسيات الحياة، فالطبخ لإنضاج الأكل وليس للتفنن وطيب التذوق والمسكن «الخيمة» للإيواء ولا مكان للزخرفة والتمتع بالمبيت.. وينجرُّ معها الملبس والدواء والبيع والشراء والزواج والقضاء والفن والأدب والغناء.. كلها ينبغي أن تتلاءم مع الترحال: بسيط حملها «خفيفة»، سهل نقلها «سريعة»، طويل بقاؤها «اقتصادية».. كالنشيد والحكاية: شفهية قوية الإيقاع، غير طويلة «غير ملحمة»، غير عميقة أو فلسفية، غير متحدة.. أي ارتجالية!!
وعندما نتفحص هذه القيمة في استقرارنا المتوطن مكاناً، نجد أن الارتجال البدوي لما يزل مهيمنا أو مؤثراً في كثير من مجتمعاتنا العربية: الموظف الذي قدم إلى عمله الجديد وأخذ يمارسه بعد دقائق من شرح شفهي من مديره أو زميله واستمر سنيناً في عمله دون أن يطلع تحريرياً على المهام المنوطة به «الوصف الوظيفي، صلاحياته، واجباته، حقوقه»، أو يستند على مراجع سابقة تفيده في تنفيذ أعماله، أو يقرأ كتاباً في طبيعة عمله.. فالمسألة منوطة بالسنع وحسن التدبير الارتجالي وليس بالقوانين واللوائح والانضباط النظامي والمصادر العلمية. المدير العام الذي تحته مئات الموظفين يقرر بلمح البصر رفضاً أو قبولاً ترقية أو إجازة أو دورة تدريبية أو غيرها لموظف ما، مع عدم إلمامه بوضع الموظف سوى الانطباع الشخصي «إذا تجاوزنا الواسطة»، رغم وجود أنظمة ولوائح تحكم هذا القرار وتحد من سطوة المزاج الشخصي.. القائد السياسي الذي أُقنع بليلة وضحاها بقرار مصيري يضع الدولة في مهب الريح، فأعلنه دون مراجعة أو استشارة لأصحاب التخصص والمعرفة المخلصين له رغم توفرهم ورغم وجود الوقت والآلية التنظيمية والوسيلة للمناورة السياسية في اتخاذ القرار.. المثقف الذي اطلع وقرأ كثيراً ثم مارس الكتابة دون أن يقرأ كتاباً واحداً عن كيفية أو أصول كتابة ما «مقالة أو غيرها» وأسلوب توظيف المعلومات ومنهجية الكتابة العلمية والموضوعية.. المشترك الذي يقتني البضاعة حسبما يستدعي جيبه لا حسبما تستدعي حاجته. الأب الذي زوَّج ابنته بطرفة عين، بموافقتها أو بدونها، بلا تمحيص في المتقدم سوى السؤال عن عائلته..
وهكذا ارتجالات شتى كأننا مرتحلون، كأننا طارئون على الوقت رغم عدم الحاجة للتسرع وتوفر فرص الأناة، بل توفر آليات ونظم إجرائية تساعد على اتخاذ القرارالمناسب.. لنحاول، إذن أن نسأل كيف يمكن تقليص الارتجال والعشوائية والتبسيط المبالغ فيه؟.
|