قبل سنة وشهرين تقريباً نشرت مقالة من حلقتين عنوانها: «مواقف من حرب الغيظ في افغانستان بين الخوف والمصلحة الذاتية». وقد اشرت في تلك المقالة الى بعض السمات الاجرامية في تاريخ الامريكيين المنحدرين من اصل اوروبي في مستقرهم الجديد، سواء ما ارتكبوه ضد السكان المحليين الذين سُمّوا الهنود الحمر او الافارقة الذين اتى بهم ارقاء الى القارة الامريكية، كما اشرت الى الدور الامريكي في الحرب العالمية الثانية، ثم ما حققته امريكا من تقدم علمي واقتصادي، واثر كل ذلك في ترسيخ مشاعر الكبرياء في نفوس قادتها بصفة خاصة. على ان تلك الكبرياء اصيبت بما اصيبت به نتيجة العدوان الذي شنه اولئك القادة ضد الشعب الفيتنامي البطل، الذي يرجع الفضل الاول في انتصاره الى صموده العظيم مؤيداً من الاتحاد السوفييتي والصين مادياً وتسليحياً ومن شعوب العالم معنويا. ثم لاحت الفرصة امام قادة امريكا ليثأروا من الذين ايدوا اولئك الذين جرحوا كبرياءهم، وذلك عندما دخلت القوات السوفييتية الى افغانستان بحجة مساندة قيادتها الشيوعية التي استولت على مقاليد الامور فيها، وعارضتها الاكثرية من الشعب الافغاني معلنة الجهاد ضد الوجود السوفييتي في بلادها.
ولبس اقطاب الزعامة الامريكية عمائم المجاهدين، ورموا بثقلهم لدعم فئات الجهاد الافغاني، تسليحاً وتمويلا. واذا كان الزعماء الامريكيون قد لبسوا تلك العمائم فهل كان لائقاً عدم لبس المسلمين لها؟! وكان ان اجبرت القوات السوفييتية على الانسحاب من افغانستان بطريقة تشبه في خيبتها الطريقة التي ارغمت بها القوات الامريكية على الانسحاب من فيتنام.
ولقد كانت حرب افغانستان خسارة فادحة للاتحاد السوفييتي، عسكرياً ومعنوياً واقتصادياً، كما كانت سبباً مهماً من اسباب تفكك ذلك الاتحاد الذي قام اساساً على قهر الشعوب غير الروسية، وبخاصة المسلمة.
وكان مما اشرت اليه في المقالة المذكورة، ايضاً، ان امريكا التي احتلت الصدارة على الصعيد العالمي قبل تفكك الاتحاد السوفييتي، اصبحت بعد تفككه متفردةً بالسياسة الدولية توجهها كما تشاء، وان قيادتها قد اقتنعت، غروراً وتكبراً، ان على الجميع ان يخضعوا لارادتها، والا يعلق احد مجرد تعليق على ما ارتكبه - ومازال يرتكبه - رجال مخابراتها من اعمال اجرامية في بقاع العالم، مشرقاً ومغرباً. ولقد برهنت على تلك الحقيقة اكثر فأكثر الجرائم التي ارتكبتها - بالتعاون مع حلفائها وصنائعها - في افغانستان من قصف ابادي لمراكز المعتقلين، وابادة الآلاف في حاويات نقل بعضهم، ومعاملة تتنافى مع ابسط حقوق الانسان تجاه من نقلتهم الى قاعدة جوانتانامو.
وكانت اسباب اتخاذ بعض الدول المواقف التي اتخذتها من حرب الغيظ الامريكية في افغانستان واضحة كل الوضوح.
ومن تلك الدول بريطانيا والهند وروسيا والصين وباكستان. فمسارعة بريطانيا الى الوقوف مع امريكا في تلك الحرب لم تكن غير متوقعة. فبعد انسحابها العسكري الرسمي من شرق قناة السويس لم يعد امامها الا ان تدور في الفلك الامريكي.
ولان افغانستان هي المستهدف بالضربة الاولى من حرب الغيظ الامريكية فان الذاكرة البريطانية القوية يستحيل عليها ان تنسى ما انزله الافغان من هزيمة بالمعتدين البريطانيين سابقا. وتأييد الهند لتلك الحرب كان في مقدمة اسبابه ان ما حققه حلفاء باكستان من نجاح في افغانستان لم يكن انتصاراً لجارتها المسلمة فحسب، بل ربما كانت له ايحاءاته المعنوية المشجعة للمسلمين الكشميريين الطامحين الى استقلالهم عند الهند، اضافة الى ما تحقق اخيراً من تعاون عسكري وثيق بين الهند والدولة الصهيونية عدوة العرب والمسلمين الاولى.
اما روسيا فوقوفها مع امريكا في افغانستان اهم اسباب استمرار اطلاق يدها في حربها الظالمة ضد المناضلين من ابناء الشعب الشيشاني، الذي بدأ نضاله ضد الاحتلال الروسي من عهد القياصرة، اضافة الى امل روسيا في الحصول على دعم مالي امريكي مباشر او عن طريق البنك الدولي الذي هو صنيعة امريكية مسيَّرة. واما الصين فربما رأت في وقوفها مع امريكا عوناً معنوياً لها في موقفها غير العادل ضد المسلمين في تركستان الشرقية. واما باكستان المسكينة فقد ادركت ان عدم وقوفها مع امريكا يمكن ان تكون له عواقب عسكرية لا يعلم مدى فداحتها الا الله.
وأما ايران الثورة الاسلامية، التي وصفت امريكا، في يوم من الايام، بأنها الشيطان الاكبر، والتي قال احد قادتها السياسيين: انه لولاها لما تمكن الامريكيون من تحقيق ما حققوه من نجاح في افغانستان، فان وقوفها مع هؤلاء سببه يعرفه كل من تابع الصراع المدمر بين فئات الشعب الافغاني.
وكان من دول الغرب المنافقة - واكثرها قد اشرب في قلوبها النفاق - من رفعت اصواتها معارضة لحرب الغيظ الامريكية قبيل اندلاعها.
لكن نفاقها سرعان ما تبخر، فأعلنت تأييدها لتلك الحرب. بل انها لم تستنكر ما ارتكبه الامريكيون وحلفاؤهم وصنائعهم من جرائم واضحة كل الوضوح، وهي التي تتشدق باحترامها لحقوق الانسان، ومع ان العامل الديني كانت له اهميته ودوره في اتخاذ ما اتخذ من مواقف فانه مازال يوجد بين الكتاب العرب المشهورين من ينكرون تلك الاهمية وذلك الدور.
ولئن كان الحديث في هذه الحلقة مركزاً على الحرب التي حدثت في افغانستان مع ان العنوان يوحي بأنه سيكون عن الحرب العدوانية المخططة ضد العراق فان هذا الحديث بمثابة مقدمة، والهدف من الحربين واحد، وهو الامة المسلمة.
|