قدم التقدم الإنساني في مجالات الطب البشري ووسائل العنايةالصحية، خلال الخمسين السنة الماضية، حقائق علمية وتفوقاً طبياً مذهلاً في فرص الشفاء من أمراض، والوقاية من أخرى ، كانت العامل الرئيسي في فناء أجيال من البشر في جميع انحاء العالم، والشاذ في هذه الصورة المشرقة ، أنه بالرغم من التقدم الهائل ،لا يزال غير القادر على الدفع المادي ، لا يستطيع الاستفادة من نتاج هذا التطور الطبي العظيم، ولا يزال يحتكر فوائده وقفزاته الطبية ، «قلّة» تمتلك القدرة المالية ...
ويقف وراء التطور المذهل في الابتكار والاختراع في الماضي والحاضر ، دوافع بشرية منها، الرغبة في الابداع والاكتشاف ، والبحث عن الربح المادي والكسب الوفير من وراء اكتشاف عقار جديد ، أو تصميم جهاز دقيق ، يباع في الأسواق العالمية، وتحفظ المنظمة العالمية للتجارة حقوقه التجارية ، ولأن أكثر من 90% من الاكتشافات الطبية في الادوية والتقنيات والأجهزة الطبية جاءت من الغرب، أصبحنا في وضع المتلقي لمنتجاته ، والمسوق لها محلياً.
ومن أجل أن يكون لنا دور في المهمة الإنسانية، والشراكة الاقتصادية ، صدّر لنا الغرب المتفوق ، وبموافقتنا نسخة من برنامج كيفية الوصول إلى درجات التفوق العلمي والطبي، ولكن للأسف، كان البرنامج مصاباً بفيروس شيطاني اسمه ..«بيزنس»، يعمل فقط لمصالح المنتجين المبتكرين ، والوكلاء الحصريين، والمديرين المستفيدين، فانتشر كالهشيم في جسد القطاع العام الصحي، وفي بعض مستشفياته المتطورة، التي تعتبر بحق ثروة وطنية، فصار حالهم مثل المصاب، الذي صار يتخبط مما فيه من مس «بزنسي»، فظهرت أعراض وعلامات الإصابة.
ووصل سوء الحال إلى هروب بعض الأطباء من عياداتهم الحكومية العامة إلى الخاصة، وخروج آخرين من تخصصاتهم الدقيقة وواجباتهم اليومية في تقديم العناية الصحية المكفولة إلى «تنفيذ» ما يمليه شيطان «البزنس» عليهم ، فصدرت قرارات تطالب المريض المواطن بالدفع نقداً لقاء عناية صحية من مؤسسة صحية حكومية، وبتخصيص نسبة من أسرة المستشفى الحكومي ، لمن يدفع «نقداً»، بالرغم من أن المستشفيات المعنية تعاني من نقص في الأسّرَة ،ولا تتناسب عدد أسرتها مع النمو السكاني المضطرد..
وراح آخر يعلن أننا «بحمد الله»، دخلنا عصر «الخصخصة» السحري ،وأنه بعد اليوم لن يكون هناك عناية صحية مجانية للمواطن السعودي، و«اللي ما يقدر يدفع، يشرب من البحر»، وكأني به يعني ان يشرب المريض قوارير «الماء» المعطّرة بالزعفران ، بالطبع بعد تحليتها ، وهي بالمناسبة وسيلة قديمة تمارس في المجتمع كعلاج للأمراض بالجملة، وليس لها أصل شرعي حسب علمي، ولم تسلم مهمة الرُقى الشرعية من حبائل السيد «بزنس»، التي كان يقدم خدماتها في المجتمع ، متطوعون يبحثون عن الأجر والثواب، فانسل إلى مجتمعهم التقي، وأصابه بمسه، لتصبح تكلفة بعض الرقى أغلى من عملية قلب مفتوح في مستشفى خاص، وازدحمت عياداتهم بالمراجعين، الذين يبحثون عن العلاج الشافي والكافي من جميع الأمراض، ذات التكلفةالعالية في المستشفيات الممسوسة ..!
وحدث مالم يكن في حسبان الشيطان «بيزنس»، عندما طلب مريض من أحد الأطباء الممارسين للطب النفسي، أن يرقيه، لعل الله يشفيه للأبد من دائه المزمن، و«يفتك» من الدفع في كل زيارة للعيادة، ومن تكاليف الأدويةالمرتفعة..
وما أنجزه السيد «بزنس» في مجتمعنا ، لم يكن في خيال مبتكره الغربي، فما نفذه هذاالشيطان الخطيرمن عمل مزدوج ومتضاد في مستشفياتنا وعياداتنا الشرعية، أفشل بعض خطط المنتج الغربي، فالنجاح الكبيرفي كسب الأرباح الطائلة من وراء مقدمي الرقية الشرعية، قلل من العائدات المتوقعة من الأدوية والأجهزة الغربية،.. ولكنه أعاد الكرَة، واخترق صفوف ممارسي ما يسمى « بالطب الشعبي»، فصاربعضهم يخلط من غير علم الوصفات الشعبية والأعشاب بالكورتيزون وأدوية الصرع والامراض النفسية والمضادات الحيوية، وهو ما ساهم بطرق غير مباشرة في تحقيق بعض أهداف الإستراتيجية الغربية لتسويق منتجات برنامج «البزنس» الأصلي، الذي تدار عبقريته الفذة في مسقط رأسه ، في مجالات الابتكار والاختراع والأبحاث العلمية، وتحكمه أخلاقيات وآليات وضوابط، تمنع أن يتحمل الإنسان المواطن تكاليف إصدار وصناعة منتجاته الطبية، ولا تضطره أن يبيع «ما يملك» أو يتقدم بخطاب طلب مساعدة من أهل الخير، لتسديد مبالغ للمؤسسة الصحية لقاء علاجه المكلف ..
والمهمة الصعبة في الوقت الحاضر ، هي في استدراك وقف ما تقدم ذكره من تأثيرات سلبية، بسبب سوء توظيف لبرنامج متفوق، والسعي وراء إيجاد علاج شاف من المسّ «البزنسي» في قطاعات الصحة العامة، وحسب رأيي كمواطن يؤمن بحق الناس جميعاً في الحصول على العناية الصحية ، كما هو الحال في بلاد الغرب «الكافرة »..!
وألا تكون الرعاية الصحية «سلعة»، تخضع لمضاربات السوق كما هو الحال في بعض بلاد المسلمين ، أقترحُ أن نبدأ في البحث عن راقٍ شرعي تقي، همه الأول والأخير، الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى «ليرقي» بعض القطاعات الصحية، لعل السيد «بزنس» يخرج من خدماتها الصحية للأبد، وأن يهتدي للطريق الصحيح، و«يمس» شيطانه الغربي، قطاعات مراكز الأبحاث الوطنية، حتى «تفيق» من سباتها العميق، الذي أحد أهم مسبباته، غياب الحافز والدعم «المادي»، والتشجيع المؤسساتي للعبقرية الوطنية الغائبة بسبب بيروقراطية الجنرال «مدير»، وذلك من أجل مستقبل أكثرصحة..!.
|