Saturday 18th January,2003 11069العدد السبت 15 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شيء من شيء من
تغير مفهوم الكرم
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

في مذكرات الضابط الانجليزي السيرجون باغوت غلوب، أو غلوب باشا «حرب في الصحراء» المترجمة إلى العربية، جاء في صفحة 105 يصفُ احدى مرات تجواله في الصحراء، شمال المملكة، عام 1921م ما نصه: (وبعد أن شربت كأساً من الشاي توقعت أن يكون عشاؤنا خفيفاً، إلا أن مضيفينا على الرغم من كل شيء خرجوا من الخيمة «بيت الشعر» بعد ساعتين، يحملون لنا طبقاً كبيراً مملوءاً بالأرز، ويعلوه خروف مطبوخ بكامله، على الرغم من أن ما يملكه أصحاب الخيمة من أغنام لا يتجاوز 15 رأساً)!. ويضيف قائلا: (وهكذا فإن مضيفينا هؤلاء قدموا لنا عشاءً يُساوي 7% من ثروتهم) ثم يعلق على ذلك بالقول: (لندع القارئ يقوم بحساب مجموعة قيمة أصوله «ممتلكاته»، ويتخيل أنه يصرف منها 7% كوجبة واحدة لأربعة غرباء)!.
ثم يواصل في وصف ليلتهم التي استضافهم فيها أولئك البدو النبلاء: (وقد قررنا أن ننام خارج الخيمة في الخلاء ونلف عباءتنا حول أجسادنا، ولما كنا نعد أنفسنا لذلك، جاء مضيفونا يصرون على وضع بساطين مهلهلين تحتنا كفراش، وبعد أن خلد المرافقون الثلاثة للنوم أدركتُ أن كل المفروشات وأغطية هاتين العائلتين هما قطعتا البساطين اللتين قدموها لنا. كانوا لا يرتدون سوى ثياب قطن، والطقس بارد جداً، ولا يستطيعون النوم دون أن يلفوا أجسادهم بقطعتي البساط الباليتين. وأمضوا ليلتهم جاثمين حول موقد النار).
هذا هو الكرم العربي الحقيقي، وهذا هو الجود والايثار في أسمى صوره، والذي يجعلنا نرى كرم اليوم، المتمثل بتلك الولائم من الخراف وما يكتنفها من بذخ وإسراف، وبالذات في المناسبات الاجتماعية، والتي يقيمها أصحاب الملايين، ليست سوى مجرد نفاق اجتماعي، وتباهٍ بالثروة، أشبه ما تكون بحملات الدعاية، والبحث عن المجد الشخصي والمكانة الاجتماعية، الذي لا علاقة له البتة بمعنى الكرم والإيثار كما كان في صحارينا، وهو من زاوية أخرى عادات وتقاليد لا يمكن أن ترقى في مفهومها وقيمها ونبلها إلى مستوى مفهوم الكرم في بعده التكافلي الذي سطره أولئك البدو الفقراء لأناسٍ لا يعرفونهم، ولا يرجون منهم جزاءً ولا شكوراً.
والكرم عند ابن الصحراء، في بعده الأخلاقي، جاء تلبية لما يسمونه اليوم مبدأ «التكافل الاجتماعي»، الذي كان في الوقت ذاته تلبية لشروط البقاء في صحراء يحفها الجوع والسراب من كل جانب. فالبدوي كان دائم الترحال والتنقل، وهو لذلك في حاجة دائمة لمن يعوله، ويسد جوعه وعطشه، ويقيم أوده، من هذا المنطلق، أو لتلك الأسباب، أفرزت هذه البيئة مثل هذه القيم، وحضت عليها، مجدت فاعليها، ورفعت قدر أصحابها.
وفي تقديري أن الكرم اليوم ليس في ذبح الخراف، وليس في التباهي بالموائد، والتنافس على التبذير، بقدر ما هو في تحقيق المبدأ الاجتماعي الذي أفرز مثلَ هذه القيم التكافلية، والذي حدا بذلك العربي الأصيل لأن يضحي بجزء كبير من ثروته لغلوب باشا ومن معه، ويؤثرهم على نفسه وأهله في ضيافته لهم، وهو لا يعرفهم، وأعني بذلك مبدأ التكافل الاجتماعي.
ولأن عصرنا غير عصرهم، واحتياجاتنا غير احتياجاتهم، وتكافلنا غير تكافلهم، فإن الكرم الحقيقي اليوم هو في التبرع للمؤسسات الخيرية، والأعمال الإنسانية، وكل ما من شأنه ترسيخ مبدأ التكافل الاجتماعي إنسانياً، في مجتمع تغير، وتغيرت بتغيره الأسس التي يقوم عليها معنى «الكرم» في بعده الموضوعي والأخلاقي.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved