كان الغروب عن قريب وقطرات خفيفة من المطر بدأت بالتساقط..
أطلقت زفرة شديدة عبر نافذة الزجاج المطل على الشارع العام فأحدثت خربشة غير متناسقة عملت خطوطاً عشوائية عبثت بالطبقة التي غلفت زجاج الشباك من أثر الضباب.
ألقت النظرة الأخيرة لهذا المنظر الرائع الذي صنعته يد الباري بتناسق جذاب يوحي لها أنه مرآة لما يعتمل بكيانها وأحاسيسها في تلك اللحظات.
وتوجهت إلى المذياع وأدارته وأنصتت:
وقع هجوم مسلح بالدبابات والمدافع الثقيلة على إحدى الدير في فلسطين المحتلة أسفر عنه استشهاد تسعة عشر شخصاً منهم سبعة أشخاص من عائلة واحدة؟!.
استشهاد طفلة في أثناء تناول طعامها مع عائلتها بمنزلها اثر صاروخ غادر.انتشار الفوضى والشتات اثر تشابك الأحزاب وإطلاق أعيرة نارية أدت إلى مقتل عدد منهم؟!
تعالت أصوات الاستغاثة وطلب النجدة عندما دوى صوت انفجار في إحدى البنايات شمال.. و..
نهضت مسرعة عندما أحست أن هناك صوتاً حاداً وألماً صاروخ يغزو رأسها الساخن ويعبث بكيانها المتلاطم وهي تشعر بالإحباط والحيرة لما تسمع وترى من حروب ومشاكسات كثيرة انتثرت كأنها التراب فوق رؤوس البشر..
فتن. حروب.. تشتت.. انقسام وماذا بعد.. اللهم رد كيد الكائدين إلى نحورهم واحمنا وبلدنا وديننا ممن أراد بنا سوءاً.
أقفلت المذياع وهي تتمنى أنها لم تفتحه.
شعرت بالملل فقررت أن تخرج إلى أي مكان تنسى به هذا الصراع الأخطبوطي الذي توزع على رأسها.
استقلا السيارة معاً وسارت مسافة ما إلى أن وصلا إليه..
إنه مكان هادئ رومانسي تغلب على أثاثه الكلاسيكية والأصالة الهندية، في المدخل يستقبلك نادل يرتدي الزي الهندي فيفتح لك الباب مرحباً بك وفي البهو العلوي الذي احتل تقسيمات متعددة تشعرمن يرتادها بالراحة النفسية والخصوصية التامة.
دلفا من خلال البهو إلى الزاوية المقربة إلى نفسيهما وجلسا.. ما هي إلا دقائق حضر بها النادل عارضاً عليهما قائمة الطعام اتفقا على وجبة خفيفة وجلسا يتأملان..
طفلان يعبثان بالستارة الخاصة بهما فيطل وجه واحداً منهما ويبتسم ثم يهرب فتأتي شقيقته وتطل هي الأخرى وتتكلم بلهجة هندية على ما يبدو أنها ترحيب أو اعتذار عن فعلة أخيها الصغير وتذهب، أكثر ما شدها بالطفلة شعرها الأسود الفاحم الطويل.
فجأة تناهى إلى سمعيهما أصوات قادمة لم تكن لغير مجموعة من السيدات اتفقن على المكان المجاور لهما.
جلسن وتبادلا التحية وأبدوا نقدهم على «مشاعل» لبعد المكان وطول المسافة إلا أن «مشاعل» قهقهت وهي تقول هو الأقرب إلى أكلاتنا التي لا تخلو من البهارات المنعشة..!!
رن صوت «الجوال» وأنصتت عندما شدتها المناقشة..
هلا «هنادي» وين «مشاري» نائم أم لا؟؟
«مشاري» يبكي وتعبان متى تجي يا ماما؟؟
ماما «كارمن» تريد محادثتك.
ماما «مشاري» فيه حرارة كثير؟!!
أنت يعطي خافض حرارة «5 مل» وكله نوم مفهوم؟؟!!
أقفلت الخط وهي تتضجر من الوضع والبقية تكاد تغطي أصواتهن ومناقشاتهن على صوتها.
قالت تعبت أشعر بالملل والسأم لما يمر بحياتي منذ الصباح الباكر وأنا أصحو وأهيئ نفسي وأطمئن على الصغار حتى ذهابهم إلى مدارسهم ثم استقل السيارة بعد جهاد في إفاقة زوجي من نومه الثقيل إلى المدرسة حيث الدوام ولسان مديرتنا الذي لا يرحم ثم أعود بنهاية الدوام مهدودة القوى فأتأكد من أن أولادي قد أنهوا وجبة الغداء مع الشغالة أصعد إلى غرفتي وأنام قليلاً حتى أستطيع تحضير بعض الدروس عصراً ومراجعة دروسهم؟؟.
التفتت «جواهر» نحوها وهي تتساءل:
ولماذا كل هذا التعب الأولاد احضري لهم معلمة والدوام احضري لك سائق أريحي رأسك من النكد وحرق الأعصاب.
تحدثت أخرى:
ألا تعلمين هأنا سائقي تحت خدمتي وأولادي لا أعرف عنهم غير التقارير التي تصلني إن كانت جيدة الحمد لله وإلا عليّ البحث عن معلمة غير التي تأتي لتعلمهم.
وأنا وزوجي اتفقنا على ألا يكلم أحدنا الآخر أو يتدخل بخصوصياته ومشاويره نحن ولله الحمد نثق ببعضنا البعض والشغالة تقوم على خدمته وهندامه على أكمل وجه وماذا بعد؟؟!!
صعقت «منيرة» لما سمعت وهي تنظر إليهن بعين الحذر وقد فكرت كثيراً قبل الموافقة على دعوتهن هذه حتى في بعض اللحظات يخامرها إحساس بالتمني لو أن زوجها معها الآن في هذا الجو الجميل دون رفيقاتها وأفكارهن.
حتى «مشاري» الصغير سلمته وللمرة الأولى بحياتها إلى الشغالة وهو يعاني من ارتفاع بدرجة حرارته.أي قلب هذا الذي يتربع وسط صدرها بأمان.قطع عليها تفكيرها ومعاتبتها نفسها صوت «بدرية» وهي تسأل «جواهر» عن زوجها الآن أين هو؟؟
ردت عليها «جواهر» ببرود بأنها لا تعرف ربما باستراحة أو مقهى أو.. لا تعرف ولكن لا يهم؟؟
استنفرت «منيرة» وهي تقول لها: ولماذا كل هذا ألا تخافين من عاقبة ذلك؟
قالت: «جواهر» هو البادئ.. تخيلي منذ ثلاث سنوات كان يذهب بعد أذان المغرب مباشرة ولا يحضر للمنزل قبل الثانية والنصف ليلاً وأنا كنت وقتها أحرق في أعصابي ودمي وهو لا يهتم لذلك حتى قال لي مرة اخرجي مع رفيقاتك لا تجلسي فريسة للأوهام والهواجس فجربت الخروج وها هي تكررت مئات المرات.
صحيح أشعر بمرارة لعدم التقائنا إلا بالنادر فأنا أحضر المنزل وأنام فيحضر وينام وفي الصباح أذهب قبل ذهابه إلى مدرستي وفي المساء هو يخرج بعدما أفاق من نومه وأنا كذلك.أما الأولاد.. أما الأولاد..فهم و..قاطعتها «منيرة» وهي تقول في يد الشغالة في يد إبليس تتلقفهم القنوات وتزرع في أفكارهم وعقولهم بذرة الشر والدمار ونحن كل واحد منا يعاند الآخر ولا يهمه غير نفسه، وكل هذا وأنت مرتاحة الضمير وهو خالٍ من المسؤولية وكأنه قد وضع لهم النجاح والثقافة والثقة والأفكار النيرة عندما زج بهم أمام هذا الطبق دون رقابة أو اهتمام لما يتلقفونه وتفرغ لزملائه وسهراته.انت هذه المناقشة كفيلة بأن تشعل بقلبها نوعاً من الندم والإحساس بالضياع لكثير من الأسر التي من المفروض أن تبني جيلاً واعياً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بوالديه كيف سيحصل ذلك وسط هذه الأجواء التي يعيشها الجيل سنة بعد سنة!!.
حضر النادل يحمل العشاء وهي تنظر إلى زوجها بفخر وسط رائحة الطعام الشهية الدافئة متمنية من الله أن يديم عليه ما هو به من أخلاق وأن يوفقه ويسدد خطاياه ويرزقه بر أطفالهم بهم غداً عندما يتلفت كل أب وكل أم إلى من يكونون لهم عمداً ونبراساً يتلمسون به الطريق.. إلى الجنة
|