يبدو أن الباحثين والكتاب المتخصصين مدعوون بالفعل في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها الأمة إلى التعمّق في تفكيك الخطاب الإعلامي الذي يوجهه العرب إلى المجتمعات الغربية، وقد تناولت وبحكم طبيعة عملي وتخصصي هذه القضية بشكل كبير في أعقاب الهجوم الذي شنته دوائر في الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص على بعض المجتمعات العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، بحجة أنها وفّرت بيئة ملائمة لتغذية مناخ الكراهية ضد الغرب، وأوجدت ظروفاً مواتية لأن يقوم بعض منسوبيها بمهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها مخلفين ما يربو عن خمسة آلاف ضحية، في حادثة غيّرت مجريات الأحداث وأوجدت واقعاً جديداً لابد لنا من التعاطي معه.
بالتأكيد فإن الجهود التي بذلتها دوائر رسمية وفكرية سياسية في الوطن العربي في نفي التهم الموجهة إليها في إطار حملات علاقات عامة للغرض نفسه لايمكن الاستهانة بها، إلا أن الواقع يقول بأن خطابنا الإعلامي لم يحظ الجوانب المتعددة للمجتمعات الغربية وحاجتها إلى خطاب إعلامي يتناسب مع اهتماماتها ومتطلباتها، ولعل هذا توّضح أكثر في استمرار ردود الفعل الأمريكية الغاضبة، وقياسات الرأي التي أظهرت قدراً من مشاعر العداء خاصة ضد السعودية، ما يعني أن«الآخر» الذي يوجه خطاباً إلى الشعب الأمريكي يملك أدوات التأثير في حين أنها تعوزنا لإتمام عملنا في هذا الإطار.
كنت قد طرحت وفي مقال سابق بعنوان«بين الأمير تركي الفيصل وكولن باول» فكرة أن تتكون هيئة رسمية لإدارة الأزمة على مستوى السعودية في ظل التحديات التي وضعتها في مواجهة تحالف «يميني- صهيوني» يروّج دعاية مكثفة ضد المملكة مستنداً إلى آلة إعلامية أخطبوطية استطاعت حتى الآن حقن فئات مجتمعية أمريكية كثيرة بمشاعر سلبية ضد العرب والمسلمين والسعودية خاصة، في هذا الصدد لابد من التيقن بأن ثمة معركة ما تدور على الأرض الأمريكية بهدف التأثير في الشرائح المجتمعية المختلفة، ويتوجب علينا الاعتراف بأن«خصومنا» يملكون الأدوات الفاعلة في التأثير في تلك الفئات من واقع أنهم«أي هؤلاء الخصوم«استطاعوا فهم طبيعة الاحتياجات والمتطلبات المتعددة لدى الفرد الأمريكي، وتمكنوا من توجيه خطاب مؤثر يعتمد على المطابقة الكاملة بين مطالب الأمريكيين وحاجاتهم من جانب، وبين أجندة الخطابات الموجهة إليهم.
من زاوية ثانية لفت انتباهي خلال الأسبوع الماضي ارتفاع مبيعات أسطوانات غنائية لفرقة أمريكية تدعى «جنود الله» Soldiers of God احتلت مرتبة متقدمة في قائمة أفضل أغاني الراب الأمريكية، وجنود الله فرقة تتغنى بأغنيات موجهة للمسلمين في أمريكا وتركز أعمالهم الفنية على قضايا المسلمين، ما قصدته من التطرق إلى هذه المجموعة هي أن للمجتمع الأمريكي حاجات خاصة لابد من ملاحظتها ودراستها علمياً- فهم طبيعة المستقبل لرسائلنا الإعلامية- عند وضع خطط تستهدف التأثير في المجتمع الأمريكي، والحقيقة أن الشخصية الأمريكية في باب مفاضلاتها تجاه الخيارات المطروحة في الخطابات المختلفة، تميل بطبعها إلى التعاطي مع الخطاب الذي يتضمن مساً مباشرا للقضايا الحيوية المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي، والمؤثرات المختلفة التي تجعل معيشة رجل الشارع الأمريكي «سهلة» أو«عسيرة» في ما يتعلق بأسعار الوقود للحركة والتدفئة وما يتعلق بالضرائب. اللافت أن اهتمامات الأمريكيين تتدرج من الحصول على الأمن ثم المعيشة اليومية وهموم الأكل والشرب وصولا إلى الجنس، واللافت أيضا أن الخصوم استخدموا بدهاء البندين الأولين في بنود الاهتمامات الأمريكية للتأثير في شرائح واسعة بدعوى أن جهات «بعينها» باتت تشكل خطراً مستمراً على الأمن الأمريكي، وأن هذه الجهات نفسها هي التي تتحكم في الاقتصاد الأمريكي في ما يتعلق بالوقود والضرائب، مما ترك انطباعات سالبة لدى الأمريكيين بأن«السعوديين» بالذات استهدفوا بلادهم من خلال محورين هما أمن المواطن الأمريكي ورفاهيته لسبب أن«15» مواطنا سعوديا شاركوا في الهجمات التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001م، ولسبب آخر هو أن السعودية هي أبرز أعضاء منظمة أوبك مما يضع على عاتقها مسؤولية تبرير ما يحدث في هذين الشأنين، ومن هذا المنطلق فان الواجب يقتضي تفنيد الحملة الشائهة بالتركيز على الأمن والاقتصاد في الولايات المتحدة، والدور السعودي الملموس في اقرارهما، فالسعودية وعبر تاريخ طويل لعبت دورا حيويا في تثبيت أسعار النفط بالتضامن والتعاون مع منظمة «أوبك»، علاوة على رفدها الاقتصاد الأمريكي بودائع مالية كبيرة وتبادلات تجارية مؤثرة للغاية في الحركة الاقتصادية، ويتردد في الأوساط النفطية أن السعودية تقدم مساعدات في هذا المجال للولايات المتحدة، إضافة إلى أنها أقرضت جمهورية روسيا ب«4» مليارات دولار في إطار تعاون سعودي- أمريكي، ويشهد التاريخ للسعودية بأنها لعبت دوراً كبيراً في تحطيم الإمبراطورية الشيوعية بدعمها المتواصل للجهاد الأفغاني ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان، ولن يكون بمقدر البنتاغون وشركات الصناعة الحربية التغافل عن الصفقات العسكرية الضخمة التي عقدت بين واشنطن والرياض، ولن تنسى صفقة طائرات الأباتشي العسكرية إضافة إلى«60» طائرة مدنية دعما للاقتصاد الأمريكي، فهل دولة تتميز بحسن نوايا كهذه يمكن أن تنقلب إلى«عدو» بين ليلة وضحاها؟!
إن بعض الأمريكيين يعون ذلك، لكن السواد الأعظم واقع تحت تأثير الصهيونية الإسرائيلية التي تتخفى وراء الوجه الأمريكي في حين أن صوتها مفضوح في التلاعب بقضايا بعينها وتنفيذ حملة إعلامية جبارة تريد بها الإساءة إلى العلاقات التاريخية بين الرياض وواشنطن، ويتوضح ذلك من خلال استرجاعنا لجزء يسير من الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرت في أوسع المطبوعات الأمريكية انتشاراً وأقواها تأثيرا باختزال صورة السعودي في شكل الترهل الجسماني و«آبار النفط»، وبطبيعة الحال لا نحتاج إلى تأكيد ملكية اليهود لمعظم شركات الإعلام الكبرى وصناعة السينما في الولايات المتحدة، فأمريكا ساحة إعلامية مفتوحة أمام الجميع ومن أراد الاستحواذ على الرأي العام الأمريكي فعليه أن يتحكم في هاتين الصناعتين: الإعلام والسينما.
ما تعيشه الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي من الاحتقان الهائل في أعقاب 11 أيلول سبتمبر بالذات يحتاج إلى أن يلعب السعوديون دوراً أكبر في تحسين صورتهم من خلال اعتمادهم سياسات الحرب النفسية، وتقديم شيء من الاعتراف مشفوع ب.. لكن، فهذه ال «لكن» في أثر الاعتراف بقدر من السلبيات تعطي قدراً كبيراً من فرص التبرير والإقناع، فمن طبيعة الشعب الأمريكي عدم تقبل النفي القاطع وتأكيد مقولة«كل شيء على ما يرام» وسيسهم الاعتراف بنسبة من الأخطاء في دفع الأمريكيين أنفسهم للاعتراف بأخطاء سياسة بلادهم في الشرق الأوسط كأحسن الافتراضات أو تفهم وجهات نظرنا حيال بعض القضايا الجوهرية على أسوأ تقدير، فالسعوديون لم يكونوا وحدهم مع «طالبان» و«القاعدة» وعلينا أن نتوجه بأسئلة مشروعة حيال مشاركة مواطن أمريكي«لا يرجع إلى أي أصول عربية» إلى جانب طالبان، فإذا كان هذا الأمريكي الذي لا يدين بالدين الإسلامي ولا تقع قضايا الشرق الأوسط في دائرة أولوياته قد حارب الى جانب طالبان ولم يطالب المجتمع الدولي واشنطن بتقديم مبررات لمشاركته، فهل تكون السعودية مسؤولة عن مواطنين يدينون بدين طالبان والقاعدة نفسها ومنفعلين بما يحدث في فلسطين، سمحت لهم بلادهم بالذهاب إلى أفغانستان في إطار أنشطة إغاثية ثم فوجىء أهلهم بأنهم في«غوانتنامو»؟
وهل حاسب المجتمع الأمريكي «الرأسمالي» حكوماته المتعاقبة على اعتناق أمريكيين الشيوعية؟، وهل تحاسب السعودية على تعديات قانونية لبعض مواطنيها في الولايات المتحدة أو أيّ بلد في العالم مادام أنهم في ذلك البلد ولا يحق للأجهزة الأمنية السعودية منعهم من اقتراف جرائم هناك حتى لو كانت احتساء خمر أو القيادة بسرعة؟ إن ذلك في طبيعة الحال منوط بالدولة التي يقيمون فيها وقد تعرضت السعودية لهجمات وأعمال إرهابية بواسطة غربيين فهل تلوم السعودية بريطانيا أو كندا على سبيل المثال على حادث سيارة مفخخة في الخبر أو الرياض؟ علاوة على أن هجمات المتشددين الإسلاميين طالت السعودية دول إسلامية أخرى كمصر واليمن، والجزائر، والأردن، واندونيسيا، وباكستان إضافة إلى دولتين أفريقيتين هما كينيا، وتنزانيا، بل إن هناك مثالا من صميم الحياة الغربية يوضح مفارقة الهجمة الإعلامية يتمثل في اعتناق كيم فيلبي رئيس الاستخبارات البريطانية المضادة 16M الشيوعية، فمن الملام في مثل هذه الحالة؟ ثم إن الأمر برمته في ناحية من نواحيه هو انعكاس للصراع العربي- الإسرائيلي الذي أثر في عقول قادة الفكر في العالم العربي والإسلامي، وانعكس على كل شرائح المجتمعات العربية، ويتوضح ذلك بصورة جلية من خلال مشاركة عناصر سعودية ولبنانية ويمنية ومصرية وجزائرية ومغربية وكويتية وإماراتية في تنظيم القاعدة، فهل نشأ هذا من فراغ أم أن ظروف سياسية بعينها أسهمت في تغذية مناخ معادٍ للأمريكيين في المنطقة؟
غني عن القول بأن المجتمع الأمريكي يتكسب دخله من خلال العمل في المؤسسات الخاصة، ودور هذه المؤسسات والشركات العملاقة غير خاف في تعميق مفاهيم استهلاكية وثقافية محددة في أوساط منسوبي هذه الشركات بما يتناسب مع مصالح وأهواء ملكها اليهود، ويتعدى تأثير شركات عملاقة مثل كوكاكولا، مايكروسوفت، جنرال موتورز.. الموظفين إلى بعض سياسات الحكومة الفيدرالية الأمريكية نفسها، والحال هذا بالنسبة إلى شركات غذائية وأخرى مختصة بالصناعات الثقيلة فما بالك بشركة إعلامية عملاقة مثل«فوكس CNBS توظّف إمكاناتها البشرية والمادية والتقنية الهائلة في خدمة أهداف استراتيجية تمسنا مساً مباشراً وتؤثر في مجريات الأحداث الكبرى، بتأثيرها المباشر في توجهات ومشارب الشارع الأمريكي والناخب الذي يدلي بصوته في الانتخابات، ولاشك أن شركات الإعلام والإنتاج الفني بالذات خدمت الدعاية الصهيونية ضد العرب وقدمت المواطن العربي في صورة مقززة ومنفرة إلى درجة يستحيل تصديقها!!
إن المعنى بهذا المقال هو الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في الولايات المتحدة الذي يقوم بجهود كبيرة في إطار الرد على حملات التشويه و«الإبادة الفكرية والثقافية» التي تقوم بها دوائر محسوبة على إسرائيل، والمعنى كذلك بهذا المقال المراكز البحثية والفكرية والدوائر الاستراتيجية الرسمية في السعودية، فتوحيد الجهود المختلفة في إطار خطة استراتيجية لإدارة الأزمة هو أوجب واجبات المرحلة لتعرف النقاط المهمة حيال الإشكالات القائمة، ودراسة طبائع وسلوك ومتطلبات المجتمع الأمريكي ليصاغ خطاب يتناسب مع حاجاته ويلبي رغباته بأدوات إعلامية مهيأة وقادرة على الوصول والتأثير، وبالتأكيد فان إنشاء قنوات تلفزيونية في الغرب تنفق عليها أموال طائلة من دون تخطيط مسبق وبحوث شاملة عن الفئات المستهدفة والأدوات التي ستستخدم والأهداف الكبرى للمشروع علاوة على أسلوب وشكل الخطاب الإعلامي الذي يناسب المجتمعات الغربية سيكون من قبيل الحرث في البحر حتى لو أنفق رجال الأعمال العرب كل ثرواتهم في هكذا مشروعات.
(*) كاتب ومحلل سياسي- لندن
|