ان المحافظة على التراث امر في غاية الأهمية للتعرف على اسهامات اسلافنا وابراز منجزاتهم العلمية والثقافية والحضارية التي حققوها وكان لهم فضل السبق على الحضارة الغربية في كثير من المجالات، ولاشك ان الحضارة الإسلامية كانت المشعل الذي بدد ظلام الجهل في العصور الوسطى والاساس والمرتكز الذي اقامت عليه اوروبا نهضتها المعاصرة.
لقد ضرب علماء المسلمين بسهم وافر في شتى جوانب المعرفة الانسانية وكان لجهدهم دور في اضاءة الطريق امام الحضارة الاوروبية وظلت بعض امهات الكتب العربية تدرس في الجامعات الاوربية حتى القرن الثامن عشر واستعرض واحدا من الكتب التربوية ذات الاهتمام بالعلاقة بين المعلم والمتعلم والمسمى (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) لبدر الدين بن جماعة والمولود عام 639 والمتوفى في 733هـ وهو احد العلماء المسلمين الذين كان لهم دور ريادي بارز في ميدان العلم وضروب المعرفة والتأليف.
لقد ركز في كتابه على ابراز فضل العلم والعلماء واهمية توطيد اواصر العلاقة بين المعلم والمتعلم ويرى ان الارشاد النفسي والتربوي له اثر بالغ في العملية التعليمية، ومن اهم الأمور التي ينبغي ان يلم بها المعلم، وان المعلم الذي لا يقوم بالعملية الارشادية لا يقوى على ان يقدم المعلومات بالصورة المرضية فمهمة المعلم لا تنحصر في امداد الطلاب بالمعلومات الواردة في المنهج المدرسي ولكنها تتجدد من خلال ما يقدمه من توجيهات وإرشادات من شأنها ان ترتقي بقدرات وملكات المتعلمين في شتى الميادين ومختلف الجوانب.
وهو بذلك ينبه الى اهمية تكوين المعلم واعداده مهنيا وتربويا حتى يكون قادرا على اداء واجبه وحمل رسالته واعداد الاجيال كما ارشد ابن جماعة الى ضرورة ان تكون العملية التعليمية موجهة لمصلحة الطلاب وحسن ارشادهم وتعليمهم ونموهم ومساعدتهم والاجابة على اسئلتهم ومناقشتهم ومراعاة الفروق الفردية بينهم ويركز على اهمية فضل العلم والعلماء مسترشدا بقول الله تعالى: {إنَّمّا يّخًشّى الله مٌنً عٌبّادٌهٌ العٍلّمّاءٍ} ويرى ان العلماء اصحاب رسالة وينبغي ان يقصدوا بالعلم وجه الله تعالى وان يكونوا قدوة حسنة ودوام مراقبة الله في السر والعلن وان المعلم امين على ما اودع من العلم وما منح من الحواس والمفاهيم والآراء وعليه ان يتواضع لله في سره وعلانيته ويقف على ما اشكل عليه وان يحرص على صيانة العلم وان يتخلق بالخلق الفاضل والزهد في الدنيا والا يتعلق بها لانه اعلم الناس بها وبسرعة زوالها وان ينزه علمه عن جعله سلما يتوصل به الى اغراض الدنيا من جاه او مال او سمعة او شهرة وتجنب مواضع التهم وان بعدت والمحافظة على شعائر الدين والصبر على الاذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باذلا نفسه لله لا يخاف فيه لومة لائم. كما يرى ابن جماعة ان العالم ينبغي ان ينتفع بعلمه بحيث ينعكس على تصرفاته وسلوكه واذا لم ينتفع بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به. وعلى المعلم ان يعامل الناس بمكارم الاخلاق من طلاقة الوجه وافشاء السلام واطعام الطعام وكظم الغيظ وكف الاذى من الناس واحتماله منهم واللطف بالطلبة واعانتهم وبرهم والبعد عن الغش والكبر والعجب والسمعة والبخل والخبث والبطر والفخر والخيلاء والتنافس في الدنيا والمداهنة وحب المدح بما لم يفعل والغيبة والنميمة والبهتان والكذب والغش في العقول واحتقار الناس ولو كانوا دونه، ويؤكد على التحذير من هذه الصفات الرديئة فانها باب كل شر بل هي الشر كله. كما يعالج الكثير من السلوكيات الخاطئة قائلا من اراد أن يطهر النفس من هذه الصفات فعليه ان يداوي الحسد بالفكر العميق الذي يراه بانه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته المقتضية تخصيص المحسود بالنعمة ومن هنا فالحاسد معترض على مشيئة الله. ويوضح أسس الاخلاق السوية في دوام الاخلاص والصبر والقناعة وحسن الظن وحسن الخلق وشكرِ النعمة. كما يحث ابن جماعة المعلم على التزود بالعلم وان يستفيد مما لا يعلمه ممن هو دونه سنا ومنصبا ويكون حريصا على الفائدة والمعرفة حيث كانت. ويرسم ابن جماعة القواعد والآداب التي ينبغي للمعلم ان يقدم بها درسه لطلابه على الوجه الاكمل ومراعاة ما يلي:
* ان يدعو الله بالتوفيق وتجنب الحركات التي تشغل اذهان الطلاب والابتعاد عن الافعال التي تقلل الهيبة ولا يدرّس وقت جوعه او عطشه او همه او نعاسه.
* ان ينظف نفسه ويلبس احسن الثياب ويجلس بارزا لجميع الحاضرين وان يبدأ بالاهم فالاهم من الدروس ويقف في مواضع الوقف مع مراعاة اسلوب التشويق وجذب المستمع ولا يرفع صوته زائدا على قدر الحاجة ولا يخفضه خفضا لا يحصل منه الفائدة.
* زجر من ظهر فيه سوء ادب او نام او تحدث مع غيره او استهزأ باحد الحاضرين.
* ان يحب المعلم لطالبه ما يحبه لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ويعامله بما يعامل به اعز اولاده من الشفقة والرحمة والعفو والاحسان والصبر.
* التوجيه والارشاد بلطف بعيدا عن الفلسفة والقسوة.
* العدل والموضوعية في معاملة التلاميذ والبعد عن الهوى في الحكم.
وقد دعا ابن جماعة الى ان يحكم العدل سلوك المعلم في تعامله مع تلاميذه وفي ذلك يقول (على المعلم الا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة او اعتناء مع تساويهم في الصفات من سن او ديانة او فضيلة فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر وينفّر القلب ولقد أوضح بعض المبادىء والقواعد للتدريس منها:
ترغيب التلاميذ في التعليم وشحذ هممهم وعدم تكليف الطالب فوق طاقته وادراكه وطرح الاسئلة على التلاميذ في نهاية كل درس للتأكد من فهمهم والتروي في الاجابة والتأكد من صحتها ويحث الطلاب على اغتنام جميع الاوقات للمذاكرة والتحصيل وطلب العلم منذ الصغر وحسن النية في طلب العلم وحسن اختيار الجليس والصديق ويرى ان كثرة الاصدقاء تضيع العمر وتذهب المال وينبغي لطالب العلم الا يخالط الا من يفيده ويستفيد منه مستشهدا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغد عالما او متعلما ولا تكن الثالث فتهلك) ومع التغيير المستمر في عملية التربية والتعليم تبعا لتطور الحياة فان المؤلف يبرز فضل العلم والتربية وانها من افضل العبادات حيث يرى ان العلم يبقى اثره وخيره يذهب على صاحبه وقد اوضح صفات المعلم الجيد ومبادىء وقواعد التدريس وحسن النية في طلب العلم الى غير ذلك من الافكار الجيدة النيرة في التربية والتعليم وطرائق التعليم واساليبه. ورحم الله اعلام التربية الاسلامية كابن خلدون وابن سيناء والغزالي وغيرهم ممن كان لهم دور كبير في اثراء التربية وتطويرها حتى صارت تضاهي الكثير من النظريات والآراء التربوية الحديثة.
|