تناولت في الأسبوع الماضي جانبا من كتاب «النقد والمجتمع» من تحرير وترجمة الناقد الفلسطيني فخري صالح، وأود فيما يلي ان أواصل التعليق على بعض ما تضمنه الكتاب، ولاسيما مسألة العلاقة بين النقد أو الناقد من ناحية والمؤسسة، من ناحية أخرى. ولعل من الطريف ان تكون هذه المسألة مما يشغل الفرنسيين بشكل خاص. فهذا رولان بارت يتحدث عن علاقته بالمؤسسة الأكاديمية كما أشرت في المقالة الماضية. فهو يشير في مقالته الى أنه كان منذ الصغر راغبا في الانتساب الى الجامعة لكن مرض الربو حال دون ذلك لفترات طويلة، وحين سنحت الفرصة لم تأت بالشكل الذي كان يتوقعه، بمعنى أنه لم ينتسب الى الجامعة على النحو المألوف:
لكن سيرة حياتي العملية تبرهن على أنني كنت دوماً مشدوداً الى فكرة كوني انتسب الى الجامعة، ومع ذلك فقد انتسبت إليها - وكنت محظوظاً في ذلك - من خلال مؤسسات تقع على هامش الجامعة وكانت مستعدة لقبولي دون أن تكون لديَّ الشهادات المطلوبة للعمل فيها: المركز القومي للبحث العلمي، المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، والآن الكوليج دي فرانس.
ثم يتوقف بارت عند مفهوم الهامشية هنا، فكيف تكون مؤسسات قائمة وكبيرة هامشية حقاً؟
يقول:
هذه المؤسسات تقع على هامش الجامعة لأسباب تتعلق بالأسلوب وكذلك لسبب موضوعي لم يكن مفهوماً عندما ألقيت درسي الافتتاحي: فالكوليج دي فرانس، والى حد كبير «المدرسة التطبيقية العليا»، لا يمنحان شهادات، ومن ثم فإن المرء لا يكون واقعاً في شراك نظام من أنظمة المؤسسات، وهذا هو الأمر الذي يوجد نوعاً من الهامشية الموضوعية.
الهامشية تأتي إذاً من بُعد المؤسسات عن الاحتياجات العملية للمجتمع، أي تأهيل المهنيين ومنحهم شهادات تثبت أهليتهم، بمعنى أنها هامشية ناتجة عن تكريس المؤسسة نفسها للهدف العلمي أو المعرفي. والطريف ان هذه الهامشية لم تعنِ ابتعاد تلك المؤسسات عما تعاني منه بقية المؤسسات، ففيها أيضاً تحتدم الصراعات الداخلية، كما يشير بارت:«إنني لا أنسى أن في الكوليج دي فرانس يوجد تناقض وصراع دائمان بين أكثر الأفكار جدة والنزعة الأرستقراطية التي لا تقبل الجدل، وهو الأمر الذي يصعب شرحه لشخص خارج الكوليج دي فرانس».
هامشية المؤسسة هي أيضاً ما يشغل حيزاً لا بأس به في المقابلة المجراة مع جاك ديريدا، بل إن الحيز أكبر هنا، ربما لنشاط ذلك المفكر الفرنسي في قطاعات الحياة الثقافية الفرنسية. فديريدا، الذي ولد في الجزائر عام 1930 لأبوين يهوديين، هو في أقرب التقديرات، أشهر الفلاسفة الغربيين حالياً، ليس في فرنسا فحسب وإنما في العالم المعاصر إجمالاً، ونشاطاته الشخصية تمتد على قطاع واسع سواء في العالم الأكاديمي أو خارجه. ويعني هذا ان ديريدا نفسه ليس محصوراً في الهامش، كما هو حال بارت فيما يبدو، فهو يدرس في مؤسستين جامعيتين في الوقت نفسه، احداهما في فرنسا والأخرى في الولايات المتحدة.
يشير ديريدا في المقابلة الى مسائل كثيرة معظمها مما يجدر عرضه هنا، لكن الحيز لا يسمح بأكثر من التركيز على بعضها، وقد اخترت العلاقة بالمؤسسة لبروزها بين القضايا الأخرى، ولما أراه من أهمية لها في حياتنا الثقافية العربية. ففي هذا السياق يطرح محاوره سؤالا حول «المعهد العالمي للفلسفة» الذي عمل ديريدا على انشائه في باريس، ويجيبه المفكر الفرنسي قائلا ان المعهد، الذي بدأ العمل عام 1983م، واقع بين حقيقة كونه مؤسسة عامة تدعمها الحكومة وطموحه الى أن يكون معهدا خاصا واقعا خارج ضغوط التكوين المؤسسي.
وتأتي امكانية تحقيق الهدف الأخير على صعوبته كما يعترف ديريدا، من سعي المعهد، من ناحية، لأن يكون مكرساً للبحث وليس للتعليم، ومن ناحية أخرى، لتركيز المعهد ليس على أي موضوع بحثي يقدم له، وإنما على موضوعات بعينها. فالى جانب سعي المعهد الى أن يكون «عالمياً» بالتركيز على المشكلات المتعلقة باختلاف الثقافات والترجمة، فإنه يستمد «هامشيته» من تركيزه على ما لم يعالج من قبل وما هو مرفوض من قبل الآخرين:
إننا مهتمون بالموضوعات التي تضم حقول بحث مشتركة وبالموضوعات التي لم يعترف بها كحقول بحث في الدوائر الجامعية. عندما يقدم إلينا مثل هذا النوع من موضوعات البحث - أي الموضوعات التي لا تتقبلها معاهد أخرى ولكنها تبدو لنا ضرورية - فإننا نفتح أبواب المعهد لمحاولة واحدة على الأقل ليصبح الأمر موضوعاً حقيقياً من موضوعات البحث.
لتحقيق هذه الأهداف يفتح المعهد أبوابه للباحثين بغض النظر عن الوضع الأكاديمي أو السن أو الجنسية أو الجنس. كما انه لا يوجد في المعهد مناصب أكاديمية «أستاذ، أستاذ مشارك، إلخ». ويلخص ديريدا علاقة المعهد بالحكومة قائلاً:
إننا نريد أن نكون أحراراً ومستقلين عن الدولة ما أمكننا ذلك. بالطبع هناك مفارقة في كون المعهد مدعوما من قبل الحكومة الفرنسية ويرغب في الوقت نفسه ان يكون حراً، ولكننا نعرف ان نعالج «هكذا» هذه المسألة، فهي ليست مستحيلة، وكما تعلم فإن المؤسسات الخاصة ليست بأكثر حرية.
هذه النقطة الأخيرة ذات مغزى لا ينبغي ان يفوت علينا ونحن نتأمل كلام مفكر شهير من بلد يقع في قلب الحضارة الغربية المعاصرة وتمثل قيم الحرية والتقدم للكثيرين. إنها مسألة الحرية التي يؤكد ديريدا أنها ليست مضمونة لمجرد كون المؤسسة، أياً كانت، خارج اطار الدعم الحكومي. فالمجتمعات الليبرالية، كما يؤكد، طورت أنظمة ووسائل تتمكن من خلالها من فرض أنواع شتى من الرقابة على مؤسساته وأنواع النشاط التي تجري في أروقتها. يقول ديريدا انه مهتم بهذا الجانب في الحياة المعاصرة:
هذا ما يهمني: الطرق التي لا تعمل فيها المجتمعات الصناعية الليبرالية على المراقبة والمنع بالمعنى الحرفي للكلمتين، ولكنها تعمل «في الحقيقة» على ذلك باستخدام بعض الآليات الخاصة بالمؤسسات والمعاهد أو آليات التوزيع التجاري أو تلك المتعلقة بالوسائل التقنية - مما يحد من فاعلية عملية التساؤل والمساءلة.
هذا الكلام ليس بالطبع جديداً «إلا ربما على بعض العرب الذين لا يرون إلا الصورة الطوباوية للحرية في بلاد كفرنسا!». فمن قرأ شيئاً للمفكر الفرنسي الراحل ميشيل فوكو، وهو صنو ديريدا، سيعرف ان تلك هي القضية المركزية لديه: القمع المؤسساتي وتقزم الحرية الفردية أمام سلطات المجتمع والخطاب الثقافي والمصالح على اختلافها. غير أننا نعود بالطبع لنقول ان المسألة نسبية في نهاية الأمر، أي أن ما يشكو منه ديريدا من قيود هو ما يعده آخرون مطلق الحرية. المؤكد في كل الحالات هو ان النسبية لا تنتهي، تماماً مثل طموحات الإنسان، ونظل، أخيراً، بحاجة الى الانفتاح على مثل الطروحات التي تطالعنا لدى مفكرين مثل بارت وديريدا إن لم يكن لشيء فعلى الأقل لكي لا ننسى الطموح نفسه.
|