يتضمن علم الاقتصاد مجموعة من النظريات التي تحاول تأطير بعض المعاملات الإنسانية ووصفها وفق معايير علمية بهدف تمكين وحدات الاقتصاد من الرجوع إليها قياساً أو حكماً، وتشكل هذه النظريات في مجملها وتكاملها كيان الفكر الاقتصادي، وهو الساحة التي يبني فيها الاقتصاديون قواعد علم الاقتصاد، وتفترض النظريات الاقتصادية أن تتصرف وحدات الاقتصاد بعقل أو بما يتفق مع المنطق السوي، ويفرط الاقتصاديون في افتراضهم هذا بتطبيقه على الفرد والمجتمع على حد سواء، ولكنهم، في واقع الأمر، يواجهون حقيقة أن ساحتهم لا تستطيع أن تستوعب كل الناس، فالإنسان كائن متغير يصعب عليه السيطرة على نفسه أو على من حوله، وهذه الصفات الفردية في الإنسان تتجمع في المجتمع لتشكل عقبة كؤودا أمام افتراضات النظريات الاقتصادية.
وتزداد المواجهة حدة بين النظريات الاقتصادية ووحدات الاقتصاد عندما تتأصل في وحدات الاقتصاد مفاهيم اجتماعية تتعارض مع النظريات الاقتصادية، وفي هذه الحالة تنشأ أزمة الفكر الاقتصادي التي قد تخلق مناخاً سلبياً يؤثر على قدرة الاقتصاديين، إن لم يكن الاقتصاد، في تطبيق المعايير العلمية للنظريات الاقتصادية.
وقد تمتد هذه الأزمة من النهج إلى الواقع، فإذا كان علم الاقتصاد يعنى بالكيفية التي تختار بها وحدات الاقتصاد استخدام عناصر الإنتاج المحدودة لإنتاج وتوزيع السلع والخدمات لتلبية الرغبات غير المحدودة بهدف زيادة رفاهية الإنسان وثروته، فإن هذا النهج قد لا يؤدي إلى تحقيق الهدف، إذ قد توجه بعض عناصر الإنتاج وخاصة في المجتمعات الغنية لإنتاج سلع غير ضرورية، فيكون الإنتاج حينئذ بهدف ملء فراغ يحدثه هو نفسه، وهذا يعني أن زيادة الإنتاج تتطلب خلق رغبات جديدة لهذه السلع، مما يؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاج اللازم لاشباعها، وعندئذ لا يتحقق هدف زيادة رفاهية الإنسان وثروته.
وقد تصيب بعض افكار وموروثات المجتمع الاقتصاديين في مقتل، وذلك بتعارضها مع الفكر الاقتصادي، كأن يتصرف الناس بمبدأ: «اصرف ما بالجيب يأتيك ما بالغيب» فتموت جذوة الادخار فتتراجع الاستثمارات وينكمش الاقتصاد، وتحدث نفس هذه الآثار السلبية إذا انغوى الناس بدعوة الشعراء باغتنام لذّات الحاضر قناعة بأنه ليس من طبع الليالي الأمان.
وقد يكون التحكم في النهج الاقتصادي ممكناً، ولكن يبدو أنه من الصعب أن يتمكن الاقتصاديون من التحكم في الواقع الذي يتعامل فيه الناس بمجريات حياتهم وتصرفاتهم في مواجهتها، ولهذا ستظل هناك فجوة كبيرة بين النظريات الاقتصادية والواقع، يصفها الاقتصاديون بأنها أزمة الفكر الاقتصادي ويدفع ثمنها الاقتصاد، وقد لا يكون ردم هذه الفجوة ممكناً، إلا إذا فكّر الناس بطريقة اقتصادية بحتة، وذلك أبعد من دخول الجمل في سمّ الخياط.
*رئيس دار الدراسات الاقتصادية الرياض
|