رباه ما هذا الصراخ والعويل، صباح مساء، يصك آذاننا في كل أوان. تحول الفضاء الذي امتلأ بملوثات مخلفات الصناعة، إلى فضاء مليء بملوثات الكلام والصراخ والهجاء. لقد امتلأ الفضاء العربي، بمحطات البث الفضائي العربي، مما لو وزع على أقطار الأرض، لمنح كل قارة أكثر من عشر محطات فضائية، تبث هموم كل قارة. ناهيك عن شبكة«الإنترنت العنكبوتية» التي تنسج خيوطها وتعشعش في كل مكان حتى غرف النوم.
لكن بلاد العرب فيها الآن فضائيات، تذكِّر بالشعراء العرب، لكل قبيلة شعراؤها. إنها صفة من صفات التوجه نحو التخلف وليس التقدم، نحو توجيه القدرات، لهدر الإمكانات، وصرفها مع مخلفات الصرف الصحي.
إن الوضع بشكله القائم، إفراز صادق لما آل إليه الوضع في التفكير العربي، وتوجهه نحو وجهة التخلف غير المدرك، وإلا فماذا يمكن تفسير توجه جهود رأس المال العربي، ورأس مال الفكر العربي- إن كان له رأس- إلى التطاول والتناطح في إطلاق فضائيات البث العربي، كل على ما يحلو له. إن أكثرها- وللأسف- تساهم ومن خلال ما تبثه من مادة في تسطيح وتخدير العقول التي تتوجه إليها، وأكثرهم الشباب والمراهقون.
في زمن القبيلة العربية كان لكل قبيلة شعراء مفوهون، ينشدون القصائد، مدحاً، وذماً، وقدحاً، حسب الطلب. وكان لكل شاعر ثمنه. وكان هناك شعراء محترفون - مثل لاعبي كرة القدم الآن - تشترى ذممهم ويشترى إبداعهم. وكانوا فضائيات ذلك الزمن في ذلك العصر، أصبح الشاعر فضائياً ويصل مداه إلى أقاصي الأرض وعلى قدر ما يصل مداه، يكون ثمنه، وعلى قدر ابتزازه وإحكامه لهذه الصنعة يكون قدر ثمنه.
قبل عصر الفضائيات، كان عصر الصحافة. وقد شهدت البلاد العربية - ولا تزال - صحفاً كانت بمثابة المطية، التي يمتطيها صاحبها نحو مورد معين بذاته«كانت مطايا العرب في الصحراء تعرف موارد مناهل الماء».
لقد ابتدع اللبنانيون - وفق شطارتهم التجارية - مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، مبدأ تأجير الصحف، وبيع توجهاتها للحكومات العربية وغير العربية، مستفيدين بذلك من طبيعة بلادهم، حيث هي منطقة خدمات، تنطلق كل الاتجاهات والتوجهات. وإن لم يكن ذلك مدركاً بالنسبة للمواطن العادي، فإنه بالنسبة لأصحاب المهنة كان معروفاً، لقد كان لكل صحيفة مخصصات في ميزانيات وزارات الإعلام العربي، وحتى غيرها من الدول التي لها أهداف ومصالح في بلدان عربية، حتى المبادىء والمناحي الفكرية، كان لها المجالات التي تخدم توجهاتها، والتي كانت تستوفي ثمن ذلك. وكانت تلك المجالات، يسيطر عليها اتجاه معين فيما تنشره، لا تفسح معه المجال لأقلام ذات توجه فكري، خلاف ما يعكس توجهها البارز فلم تكن تعكس توجهات الفكر المتعدد الاتجاهات، كما كانت هناك دور نشر، تسيطر على إصداراتها توجهات معينة، وفقاً لما يدفع لها ثمناً لذلك.
ناشر لبناني، وجه معروف بالنسبة لي، ولغيري من المشتغلين في صناعة النشر العربي، وجه تردد على عواصم عربية، في الخليج العربي، والعراق، وإيران حينما كان نشر الكتاب، منافساً للصحيفة، وعندما أصبح الكتاب يترنح أمام صولجان الفضائيات، ركب الفضاء وانطلق في سمائه، فاتحاً ملفاته القديمة.
لقد وضع هذا الناشر، وفي مثل هذا الظرف التاريخي الذي لا يحتمل العبث. والبحث عن امتطاء أي شراع للبحث عن صيد ذاتي، وضع علاقات بلاده التي تنطلق فيها فضائيته، في مواجهة غير مستحبة مع بلد، يعتبر لبنان مجالاً لما يمكن أن يوجهه من مساعدات لإعادة بناء بنيته التي هدّمتها الصراعات، وتوزيع المصالح بين أبناء الوطن الواحد. فهل يريد هذا القنّاص الانتهازي أن يقتنص لنفسه جزءاً من ذلك. وإلا فإن تاريخه لم يشهد أي توجه قومي في قضايا الأمة العربية والإنسان العربي، فهل أصبح الآن وبعد أن تقدم به العمر، ذلك الناسك في محراب الحريات وحقوق الإنسان العربي، فأين كان منها يوم أن مثل دور ذلك الشاعر الذي يبيع شعره، أين كان يوم أن كان أبناء وطنه يتطاحنون فيما بينهم؟! ويوم أن أطاحت تلك الأيدي بمكتبته في ساحة الشهداء، قلب بيروت.
للأسف الشديد، فإنه حيث يحتدم الصراع على كيان هذه الأمة، وعلى بلدان مؤثرة في هذا الكيان، ينساق أمثال هذا الانتهازي في النفخ في هذا البوق، فماذا يريدون. هل يريدوننا أن نكون مثلهم مجرد مهاجرين، داخل أوطاننا.
وفيما يبدو، فإنه حين تتسع مساحة الحرية للتعبير عن الرأي، في بعض أوطاننا العربية، تصبح - وفيما يدعو للأسى والأسف - ساحة للوالغين في حرية التعبير عن هواجس الأمة، وما يترصد لها من مخاطر، إن المتتبع لما تنشره صحف عربية، تصدر في بلدان عربية، أتيح لها مساحة من الحرية للتعبير فيما تريد أن تنشره، يتضح له أن تلك الصحف تنهش في لحم هذه الأمة، في وقت يعتبر من أسوأ ما يمر بهذه الأمة، وإلا فبماذا يمكن للمتتبع أن يفسر هذه الحمى للهجوم المستعر على بلد عربي، من صحف عربية تصدر في بلد عربي، يتسم وعلى مدى تاريخه الطويل بأنه منارة للدفاع عن البلاد العربية، وقاعدة للقومية العربية، ومركزاً مؤثراً من مراكز الثقافة العربية. وتتفق هذه الحملة لتؤازر الحملة الموجهة من بلاد تترصد هذه الأمة، بل ترصد للبلد العربي الذي له دوره المؤثر في الفترات التاريخية الحاسمة في تاريخ هذه الأمة القريب، إن هذه الحملة تصور هذا البلد العربي، كما لو كان عدواً على قدم المساواة مع إسرائيل وراعيتها الكبرى. إن الصفحات المخصصة للهجوم على هذا البلد العربي، أضعاف ما تخصصه هذه الصحف للهجوم على إسرائيل ومن يقف وراءها - ألم يكن هذا البلد العربي - رغم ارتباطاته الدولية - أول من فعّل سلاح البترول إبان حرب أكتوبر مع العدو الإسرائيلي وحلفائه- ألم يكن هو الذي كان يدفع من عائداته المالية أعباء المعارك التي خاضتها دول المواجهة مع العدو. ألم يكن هو الذي أسرع إلى إسقاط ديونه على الدول العربية التي كانت تتضرر في أي ظرف تاريخي حاسم.
إن الملاحظ أن أطروحات الهجوم على هذا البلد العربي، تتخذ مساراً يعزف على نفس التوجه، الذي تطرحه هذه االقوى الدولية المتربصة بأمتنا العربية، ومن أخطر ما فيها أن يتجه هذا الطرح إلى الفكر والعقائد ومنهاج الخلاف والاختلاف في هذه المسائل، ووصفه بأنه توجه سياسي، إن في هذا خلطاً للأمور، عودة إلى حالة «الأكليروس» التي كانت سائدة في أوروبا إبان العصور الوسطى، فليس في بلادنا العربية «سياسيون علماء دين» وإنما «علماء دين» يصيبون، ويخطئون، وحينما يصبح الأمر مرهوناً بكفالة الحرية للفكر، فإن علماء الدين هم أولى بهذه الكفالة، لقد كُفلت هذه الحرية لرجال علم الحديث النبوي الشريف، فأخذ بعضهم بمبدأ تمحيص الأحاديث، ونشأ علم قائم بذاته في هذا المجال، فإذا كانت الحرية الفكرية مطلوبة للجميع، فإنها لا بد أن تكون مكفولة لكل التوجهات. دون امتطاء مطية الأغراض وإلا وقع هؤلاء في المشبوه، وعرض الذمّة للأغراض.
إن هؤلاء - وعلى ما يعبّر القول المعروف الذي يقول «إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم» - يعبر عن التوجه الذي بدأ يطرح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، بأننا كعرب ومسلمين، مسؤولون عما حدث في ذلك اليوم. وإلا فبماذا يفسر هذا الهجوم على مسائل خلافية في الفكر الإسلامي. ألم تكن هذه المسائل موجودة ومطروحة منذ زمن بعيد. ما الذي جعلها تطفو على السطح وتصبح الهاجس المؤرِّق لهؤلاء الذين أفاقوا من سباتهم الآن.
إن السؤال المطروح، هو كيف استوى في تفكير هؤلاء الذين يشعلون حمأة الخلافات العربية، والبحث في دفاترهم ومذكراتهم القديمة عن مسببات واهية لبعث هذه الخلافات من جديد، كيف استوى في تفكيرهم طرح هذه الخلافات وفي هذه الظروف التاريخية المؤلمة التي تهدد كيان هذه الأمة العربية. من المعروف أنه إذا ألمّ بأمة خطب خارجي، كان ذلك أدعى إلى تلاحمها في الدفاع والذب عما يتهددها من مخاطر. إن هؤلاء - وتلك إجابة السؤال- ليسوا من نسيج هذه الأمة، وإذا كانوا من نسيجها، فإنهم يقفون في صف المنافقين والشعوبيين الذين تتواتر أخبارهم في كل فترة من فترات تاريخ هذه الأمة.
يجب أن توصد أمامهم كل الأبواب التي يحاولون الولوج منها، حاملين معهم سحنات وجوههم الصفراء المبتزة.
|