لا يمكن أن ينطلق مسرحنا إلا بعد أن تتشكل مفاهيمه بصورتها الصحيحة ويصبح جزءاً من الوعي الثقافي والاجتماعي.. من هنا جاء حوارنا مع الدكتور حزاب السعدون أستاذ الدراما والإعلام بجامعة الملك سعود الذي أضاء برؤيته الدقيقة عدداً من قضايا المسرح المطروحة عليه..
الدكتور السعدون يتساءل عن المؤسسة الثقافية التي يمكن أن تقنن «المحاذير»!! ويدعو إلى مجلس وطني أعلى للثقافة يكون مسؤولاً عن استراتيجيات الثقافة ويؤكد أن العملية الإبداعية ليست منشوراً سياسياً يحرض الجماهير.
* النص عندما يمارس هيمنته على «العرض»، فإنه ينحى به منحى (أدبياً، سردياً، حكائياً).. كيف ترى إشكالية النص والعرض حسب هذا المفهوم؟
- تكمن الاشكالية الرئيسية في فهمنا للدراما بشكل عام فالنص الدرامي يختلف في بنيته عن الأجناس الأدبية الأخرى من حيث إنه نص يؤدى أي أن هناك عناصر كثيرة تدخل في عملية الأداء هذه، ومن أبسط مفاهيم الدراما أنها قائمة على الفعل.. الفعل الإنساني ويتصاعد هذا الفعل ليصل بنا إلى الذروة ثم تبدأ لحظة النزول إلى الخاتمة وهي نهاية هذا الفعل ونتائجه، والقصة الدرامية، والفكر الذي يطرحه النص حوارياً يدخل في بنية الفعل هذا ويحركه، فالنص الدرامي والمسرحي على وجه التحديد لا يسمح بأي شكل من الأشكال بوجود السرد القصصي والا فقد العرض المسرحي قيمته الفنية واقترب من الوعظ المباشر الذي يتنافى مع الإبداع أساساً.
في العرض المسرحي تتداخل مجموعة من العناصر لإنتاج الدلالة وليس النص وحده، فالمخرج المبدع يتخذ من النص عنصراً أساسياً في عملية تشفير الدلالات التي يقدمها العرض المتكامل للعمل ونحن هنا نطلق على العرض المسرحي أنه عمل يدخل فيه الصوت والذي يشمل الأداء الحواري الذي هو صوت الممثل والموسيقى التصويرية، ويدخل فيه العنصر البصري الذي هو جسد الممثل وملابسه وحركاته وإيماءاته مع الديكورات والاكسسوارات وكل التشكيل الابداعي للفضاء المسرحي اضافة إلى استخدام الإضاءة بأشكالها المختلفة.. كل هذه العناصر مجتمعة ينسجها المخرج ليشكل منها عملاً إبداعياً قابلاً للعرض وهنا كما ذكرت في السابق نجد أن النص عنصر مستقر تتشكل حوله العناصر الأخرى ولكنه لا يكفي وحده لإنتاج الدلالة المسرحية، والعرض المسرحي يمر بعدة مراحل قبل وصوله إلى الملتقى، فكاتب النص تنتهي علاقته بكتابة النص أو كما يقول «رولان بارت» كاتب النص يموت في تلك اللحظة التي يفرغ فيها من كتابة نصه، وإذا كان النص المسرحي يحمل تعقيدات دلالية واحتمالات تفسيرية متنوعة يقوم «الدراما تورجي» بتفكيك النص إلى أكثر من رؤية نصية يقدمها للمخرج والذي يختار واحدة منها ويقوم لها رؤية اخراجية بشرط عدم ضياع الفكرة الأساسية للنص وعندما يقوم المخرج بتشكيل العناصر الفنية للعرض واستكمالاً يتلاشى المخرج لحظة العرض المسرحي ليتولى الممثل مع العناصر التشكيلية الأخرى تقديم العرض المسرحي للجمهور، ويبقى على المتلقي تفكيك شفرات النص التي وصفها المخرج على شكل علاجات قد لا يستطيع المتلقي إداركها بالكامل ولكن إدراك جزء كبير من هذه العلاجات يكفي لفهم مستوى معين من العرض ولعدم قدرة كل المتلقين إدراك العلامات بنفس المستوى توصل المسرحيون إلى قبول فكرة المستويات المتعددة لاستيعاب العرض المسرحي وكذلك مفهوم التربية المسرحية فهناك علاقة طردية بين تجارب المتلقي المسرحية وقدرته على التعمق في فهم الدلالات المسرحية والشعور بالمتعة فالاستمتاع بالعرض المسرحي يحتاج إلى ثقافة مسرحية تساعده على فك الشفرات الدلالية، فالعمل المسرحي عبارة عن عناصر متكاملة بنيت بناء عضوياً وأي خلل في أحد هذه العناصر سوف يقلل من قيمة العمل المسرحي.
* ظن البعض أن المسرح يعيش على ظاهرة «اختراق المحاذير».. وهذا ما دعى ببعض المسرحيين إلى اختراع محاذير في أذهانهم وبدأوا يتعاملون معها على أنها من المحاذير وهي من المتاح والمباح والواجب مسرحياً. كيف ترى هذا الأمر؟
من حيث المبدأ يجب على العمل الإبداعي على الأقل والمسرح واحداً من أنواع الإبداع أن يتماس مع المحاذير إن لم يخترقها وإلا ما قيمة الإبداع؟! فالإبداع بطبيعة الحال متناف مع السكون ويسعى لتحريك المياه الراكدة ليجعلها أكثر صفاءً فإذا كان الهدف تقدم المجتمع والمشاركة في رفع المستوى الثقافي للإنسان فيجب أن يحصل هذا التماس ولكن جوهر المشكلة عندنا.. من يحدد هذه المحاذير؟
فالمؤسسات الثقافية بتنوعها لديها ضبابية في تحديد المحاذير لغياب المشروع الثقافي الجاد والذي يتسم بمعالم محددة مبنية على وعي عميق بما يسهم في الرفع من مستوى المواطن السعودي عقلياً ووجدانياً، ومعظم هذه المحاذير اعتقد أنها نتيجة عدم الإلمام بالدور الذي يمكن أن يلعبه الفن في تطوير الذوق العام والحد من السلوكيات التي لا يرغبها المجتمع، فتأثير الفنون بشكل عام لا يمكن أن يتم بطريقة سريعة ومباشرة ويحتاج إلى مساهمات كثيرة وإلى رسائل متنوعة وبأشكال مختلفة حتى نستطيع تلمس نتائجها. لكن عندما تتولى البيروقراطية الجانب الثقافي في المجتمع فإنها تعتمد على اجتهادات فردية غير مدروسة تتسم بطابع الوقتية، فهذه البيروقراطية تضع معاييرها الشخصية ومن ثم تنزاح عن المشهد الثقافي ليتورط من يأتي بعدها بمعايير لا يدري من أين مصدرها وقد يعتقد أن هذه المعايير لا يمكن تجاوزها وقد يكون هذا الشخص من الذين يعتقدون بعدم صحتها، إننا نعيش في تناقض غريب فما هو مسموح في الجهة هذه غير مسموح في الجهة تلك مع أنه ليس هناك تبرير منطقي لهذا التناقض وساعطيك مثالاً بسيطاً على ذلك، ففي المسرح الجامعي نجد أن بعض الجامعات لا يسمح بوجود عنصر الموسيقى في عروضها والبعض الآخر يسمع بذلك مع أنها يفترض أن تتبع جهة واحدة والطالب الذي يستمع للموسيقى والإذاعة والتلفزيون مع أنها مؤسسات رسمية يقع في حيرة من أمره ويصبح لديه نوع من التناقض حتى في بناء شخصيته فمتى كان دور الجامعات خلق هذا النوع من التناقض في بناء الإنسان؟! اعتقد أن الحل يكمن في ايجاد مجلس وطني أعلى للثقافة يكون مسؤولاً عن استراتيجيات الثقافة في بلادنا ووضع الخطط العريضة المدروسة بدلاً من التخبط والاجتهادات الفردية المرتجلة التي لم تعد ممكنة في ظل التدفق الثقافي العالمي من كل الجهات وبكافة الوسائل.
* بحسب أن المسرح ليس جزءاً من الذاكرة الاجتماعية.. وليس مشروعاً جاداً في تحولاتنا الاجتماعية السابقة.. أليس هذا كافياً بأن يبقى مسرحنا «مولوداً غير شرعي» الأمر الذي جعله لا يحظى بمباركة رسمية؟
- دعني هنا استعير مصطلح أستاذنا الدكتور «عبدالله الغذامي» نسق «الشخصية الشعرية» في هيمنته على الانساق المضمرة في الخطاب الثقافي العربي لنجد أنه في تعاطينا مع عملية انتاج الثقافة يبرز لنا نسق «شخصية البداوة» وعلى الرغم مما تملكه هذه الشخصية من صفات ايجابية لا مجال لذكرها هنا إلا أن هناك جوانب سلبية كثيرة في هذه الشخصية منها تضخم الأنا على حساب الآخر، صحيح أن انفصال «الأنا» عن «النحن» تعد مرحلة متطورة في تاريخ البشرية إلا أن هذا الانفعال في «شخصية البداوة» لم يتخذ مساحة مقننة واضحة المعالم، بل هناك انفصال مطلق واندماج مطلق حسب تراتيبية العلاقة.. والعمل المسرحي عمل جمعي لا يسمح بهيمنة بل يخضعها إلى نسيج متكامل وجوهر الابداع فيها تمازج خيوطها مع تنوعها في آن.
«شخصية البداوة» يهيمن عليها العفوي والمؤقت بينما العمل المسرحي يحتاج إلى تخطيط وتدريب وإعادة تشكيل العناصر للخروج بصياغة تلغي ما هو عفوي وما هو لحظة تأملية عابرة.
والعمل المسرحي يعتمد على صراع الأفكار فلا يمكن بناء مسرحية على رأي واحد بينما «شخصية البداوة» ترى الأشياء ذات بعد واحد والذاكرة الاجتماعية أيضاً تعتمد على الشعر الذاتي أو ما يسمى بالغنائي أحياناً بينما المسرح يستمد ذاكرته من الشعر الموضوعي أو الملحمي والذي يتحدث عن المجموع وليس عن الأنا. كل هذه العوامل مع غياب المشروع الثقافي الرسمي الذي يدخل الثقافة والإبداع كجزء أساسي إلى جانب التعليم في عملية التنمية البشرية التي هي الغاية والوسيلة في أي عملية تنموية حقيقية.. وعندما نتوقف لمراجعة سلوكياتنا الاجتماعية، فالمسرح والدراما عموماً من أهم المنتجات الثقافية التي تنفذ إلى عمق هذه السلوكيات وتصحح مسارها.. اعتقد أنه حان الوقت لتعطى مؤسساتنا الثقافية شرعية لهذا المولود على الأقل فالأشخاص الذين ساهموا في منح الشعر الشعبي نوعاً من الشرعية فإن من واجب المجتمع عليهم أن يعطوا المسرح نوعاً من الشرعية أيضاً.. يجب أن نطرح على أنفسنا الأسئلة الصعبة؛ لماذا نجد في كل بلاد الدنيا أن هناك علاقة متينة بين الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي وبين الابداع الثقافي؟
* مسرح «القضية الفلسطينية» ما زال يكرس دور الضحية والجلاد، حيث شغل بتعرية البعد الشيطاني للعدو أو تمجيد البعد النضالي للمقهورين. كيف يمكن لنا تفكيك «القضية مسرحياً» وفق رؤية تلامس عمق الأشياء؟
- الإبداع بشكل عام والمسرحي منه ليس منشوراً سياسياً مباشراً لتحريض الجماهير لاتخاد موافق آنية تخدم هذا التوجه أو ذاك. والقضية الفلسطينية لها خصوصيتها بصفتها تشكل القضية المركزية في الوجدان العربي ولا تحتاج إلى تحريض يومي، فما يفعله الصهاينة في فلسطين وما يشاهده المواطن العربي من قتل البشر وتهديم منازلهم وتجريف مزارعهم وتجويعهم وإذلالهم على شاشات التلفزيون أصدق من أي عمل مسرحي.. وما ينقص العمل الإبداعي هو كشف الإنسان الفلسطيني من الداخل وتقريبه للإنسان العربي ولكل إنسان في العالم من خلال طرح المشترك مع الآخر، علاقته ببيته الذي يهدم أمامه، علاقته باطفاله في ضوء الرعب الذي يعيشونه، قدرته على الصمود وعلى الحب مع مرارة فقدان الوطن والتمتع بخيراته، ضياع الأحلام الشخصية الصغيرة في حياته، فقدانه لابسط أنواع الحرية في التنقل من مكان إلى آخر داخل قريته أو مدينته.. كل هذه الجوانب يفترض تقديمها مسرحياً ودرامياً للكشف عن أعماق الإنسان للإنسانية كلها. ومع ذلك فإن المبدع يختار موضوعاته وقضاياه من خلال ما يشعر به واعتقد أنه لا يجوز للمبدع الخضوع لنصائح الآخرين مها كانت وجاهتها.
|