|
المحاولات الموضوعية والجادة في تناول موضوع العولمة والتعامل معها على صعيد العالم العربي او الإسلامي بشكل أوسع، مازالت محدودة وتقتصر على بضع دراسات اكاديمية لم تطلع عليها إلا نخبة محدودة، وفي المقابل نجد ان وسائل الإعلام العربية العامة من صحافة او محطات فضائية تتعرض لهذا الموضوع بسطحية عجيبة تتلخص في معظمها بالهجوم على الغرب واتهامه بفرض ثقافته على غيره وتحديداً على العرب والمسلمين، والتأكيد على نظرية المؤامرة التي مازال الكثير يعلق على شماعتها حالات التردي الثقافي والعلمي التي يعيشها العرب والمسلمون على حدٍ سواء في كثير من مناشط الحياة وشؤونها، قد يكون للعولمة منظور شامل يستوعب مناحي الحياة المختلفة ولكنها، في نظري، تصب أساساً وبشكل مباشر في الشأن الاقتصادي الذي فرض تواجده ليكون مجالاً خصباً لمفهوم العولمة في إطار ما يعرف بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد، هذا النظام نشأ من رحم النظام الرأسمالي وترعرع في أحضان الغرب واشتد عوده بانهيار الاتحاد السوفييتي وسيطرة القطب الواحد الذي قد لا تمثله الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها، بالضرورة، بل تجسده مجموعة الدول الصناعية المتقدمة التي فرضت رؤيتها في تأطير وتحديد مفهوم النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهو الآلية العملية لمفهوم العولمة الذي وجد فيه الغرب ما يمكنه من تسويق منتجاته على العالم كله ومفهوم الإنتاج هنا قد يتعدى المفهوم التقليدي للمنتجات المادية ليشمل الإنتاج الفكري والايديولوجي وغيره، وهذا ما يثير فكرة المؤامرة والنظر الى العولمة كهجمة ثقافية غربية على ثقافات الإنسان الآخر في دول العالم النامي، وقد يكون هذا صحيحاً أو من غير المستبعد في أحسن التأويلات، إلا ان النظر الى مثل هذا الأمر بنظرة المؤامرة هو تعامل سلبي قد يفيد الغرب دون ان يمكِّن العرب او المسلمين من التعامل مع موضوع العولمة بموضوعية باعتبارها واقعاً لا يمكن تجاهله ومستقبلاً يجب التعامل معه بجدية، والتعامل مع العولمة لا يعني رفضها بالضرورة ولا يعني في الوقت نفسه ان تكون ثوباً جاهزاً مفصلاً نلبسه بغباء وربما بعفوية لتختفي تحته كل أفكارنا ومعتقداتنا وموروثاتنا الايجابية. ليس هذا هو المطلوب بقدر ما يجب ان نعمل على ان نكون عنصراً فاعلاً في رسم معالم العولمة في بداية مراحل تكوينها وتأطيرها باعتبارها السمة التي ستطغى على معالم القرن الجديد، ومن غير المستبعد فعلاً ان يكون الأمر كذلك. واذا كان لنا، كعرب ومسلمين، ان نتعامل مع هذا الواقع بروح وثابة ونظرة ثاقبة وباستعداد القادر الراغب في ان تكون لقدمه موطئ صلب وفي ان يكون لنا دور فاعل يتبع القول بالعمل، فإن علينا ان نتعامل مع استحقاقات العولمة بجدية ونقارع حجتها بالحجة ونجادل مفرداتها بما لدينا من ثقة في مكوناتنا الثقافية والعلمية وموروثاتنا، الايجابية تحديداً، وهي المكونات التي صمدت عبر سنوات طويلة برغم كل الاحباطات والترديات وإفرازاتها. والمواجهة الحقيقية التي يمكن ان تحدث التأثير الذي ننشده في مسار العولمة او نهجها هو استثمار هذه المكونات في تفعيل الشأن الاقتصادي العربي والإسلامي على حدٍ سواء وتوظيف الموارد الاقتصادية المتاحة لتكون لنا كلمة في الساحة الكبرى التي ستكون مسرحاً عملياً لاستحقاقات العولمة. إن التعامل مع العولمة من هذا المنظور العملي اجدى وأكثر نفعاً من الانزواء خلف نظرية المؤامرة والانكفاء عليها، والقبول بنظرية المؤامرة هو ضعف يتمناه أي طرف قوي في خصمه المقابل. فالقوة قد لا تكون بالضرورة لذات القوي بقدر ما تكون في كثير من الأحوال بسبب ضعف الخصم. فالأمور تقاس بالتعاملات الجماعية التي تحكمها وتسيطر عليها القدرات والامكانات الفردية في المقام الأول. إن أكثر ما يغري الغرب على الهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي الجديد هو ان تستكين الدولة النامية الى أوضاعها وأن تظل في الجانب الاستهلاكي من العملية الانتاجية حتى تستمر في دائرة التخلف، ولن تتمكن الدول النامية، ومنها الدول العربية والإسلامية، من الخروج من هذا المأزق إلا إذا أدركت ان لديها مكونات التقدم وعملت على تحويلها الى واقع يُمكنها من أن تكون طرفاً فاعلاً في صنع القرار الاقتصادي العالمي بدلاً من ان تكون عرضة للتآمر او ضحية لفكرته التي وجدت فيه المناخ الملائم. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |