كان عهده بها قديماً عندما كانت تلعب أمام ذاك الزقاق الضيق، وهي تقبض بيدها الصغيرتين على قطعة الحلوى، خشية أن تقع في التراب وتتسخ؛ وضفائر شعرها الأحمر المجدول تلونه شريطة حمراء، وهو يراقبها من بعيد مع بعض فتيات الحي؛ الصغيرات وهن يتجمعن ساعة العصر، ويتبارين في السباق.!
كان منظرهن يحفزه على الاستمرار في مراقبة لعبهن وعبثهن ويغلق باب منزله عندما يسمع صوت أبيه يصرخ بصوته المجلجل، الذي يكاد دويه يحدث زلزلا في الحي الذي يقيم فيه.
وسرعان ما يركض الى حوش منزله وهو يجيب بصوت مبحوح.! ها أنا قادم يا أبتي.!!
يقف متصلبا أمام غضب والده وهو يتصبب عرقاً ويرتجف مثل عود قصب، ويتتعتع في كلامه..!
لحظات ويخرج أبوه نقوداً معدنية ويلقيها اليه..
أمسك.. واذهب على الفور.. واشتر لنا طعام العشاء..!
وبدون أية اجابة يذهب كمن يسابق الريح ويغلق الباب، ويعود بعد دقائق معدودة وهو يحمل طبقا معدنياً مغطى، ويقف بين يدي أبيه؛ وصدره يعلو وينخفض، ثم يلزم حجرته الموحشة الضيقة، بينما الفتيات يلهين أنفسهن باللعب، فيحاول اختلاس نظرات سريعة من خلف النافذة ذات الثقوب الضيقة، ويلقي بزفرة طويلة؛ وهو يراقب ضحكات الصغيرات وهن يلعبن.!
مرت الأيام بأسرع مما كانت عليه..! ولا زال لا يبرح تلك العادة التي ألفها، فقد أصبح في العشرين من عمره.. وهو ينظر من خلف الشقوق التي حفرها الزمن وأحدث فيها تصدعات..!
سعال طويل.. يعقبه صوت منهك ينادي بتعب وتوجع.! وتستيقظ العمة مسرعة متجهة نحو الصوت.! تدخل مرتابة..! وتنادي: سعد، سعد، ألا تستمع صوت أبيك وهو ينادي.. اذهب لعله بحاجة اليك.. هيا يا بني تتراجع كلمات في فمه.. وهو يحاول دفعها..! وبعد تردد أخبريني يا عمة.. هل ما زالت سعدة تقيم مع والدها وزوجته؛ تتنهد تنهيدة طويلة. نعم! بعد ان أصابتها الحروق وشوهت معالم جسدها..؛ لم يتقدم أحد للزواج منها؟.. لماذا تسأل.. فرد: لا شيء، سأذهب وأرى ما بال أبي..!
ضوء ضعيف ينبعث من منزل متهالك، وحجرة شوهت الرطوبة معالمها.. ومتكأ.. تعلوه وسادة.. وقطعة من صوف الخراف فوق أرضه الأسمنتية..!
الساعة تجاوزت الحادية عشرة مساء؛ ولا زالت سعدة تتأمل تلك الحروق التي تركت آثارها على رقبتها وجسدها رغم مرور سنوات طويلة.!
وتطلق زفرة يعلو فيها صدرها ويهبط؛ وهي تحاول أن تنسى ذاك اليوم الكئيب، الذي كاد أن يودي بحياتها يوم قادتها زوجة أبيها لطهو وليمة الغداء وهي ابنة الثانية عشرة.!
ولا زالت الصور المؤلمة تتراقص أمامها؛ ولا تعلم سبب تلك الدموع التي أطلقت لها العنان لتنساب، أهي دافع الألم الذي عاود شريط الذكريات أم للتشوهات التي أحدثتها تلك الحروق!؟ ولا تعلم مصيرها حتى اللحظات التي ترقب طلة القمر وهو يختبىء بين السحاب.
وتطلق لنفسها العنان وتسرح معه متناسية حالها وآلامها التي سكنت نفسها الحزينة! حتى يلوح لها فجر اليوم التالي.. فتسرع الى مخدعها وتلقي برأسها على تلك الأريكة الخشبية، وتغط في سبات عميق حتى ساعات متأخرة من النهار!.
|