Wednesday 15th January,2003 11066العدد الاربعاء 12 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

صحراء الظباء أكبر من هذا التشويه! صحراء الظباء أكبر من هذا التشويه!
عبدالله بن ثاني (*)

روى المبرد في كتابه الكامل قصة الأعرابي الذي صبر على قساوة الصحراء، ولم يغادرها بحثاً عن النسيم العليل والطقس الجميل فقال: قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلاً، فيرفض عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساه ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى»
والآخر الغريب الذي يمر بها غازياً طارئاً لا يدرك سر جمالها في نفوس أبنائها الذين يتلذذون بمشاهدها في رواية درامية مفعمة بالحبكة والصراع والدهشة، يقاومون الموت والجوع والعطش ولا يرضون أن تتحول شخصياتهم الأساسية وبطولاتهم الخارقة إلى كومبارس يرقص على صوت المدافع والآلات المجنزرة احتفاءً بالاحتضار، إنهم يمتدون في أبعادها، ولا ينحسرون، يدورون فيها ولاء للتراب ويستعذبون السوافي، ولهيب الهواجر احتراماً للأرض كما هي صورة ذلك الأعرابي وكأني به يرفع راية الاحتجاج على تسمية الحروب بعواصفها وجرذانها وتسمية جنرالاتها بثعالبها، لأن قسوتها إعطاء ونوال، ورضاها مبتغى وهدف أسمى لمن يقاسون حرها وبردها، جميلة في غزلانها وعصافيرها وبراريها وكثبانها الصفراء المذهبة قال ستيقان فايدنر حول رواية «عشب الليل» للمبدع إبراهيم الكوني ابن الصحراء الغربية في بلاد المغرب العربي «تمتلك في الصحراء صغائر مثل الريح أو الحيوان أو الألوان أو الوميض معنىً حياتياً في غاية الأهمية، ففي عالم كهذا يصير أصغر سوء فهم سبباً لهلاك محقق، كما أن العلاقة الحميمية بالطبيعة وبالآخر في درجة أدنى تكمن مشكلات أهل المدن وشكوكهم نحو أهل الصحراء» التي تمنح عشاقها فرصة اللقاء في ظل نور القمر، وتعطي رجالاتها الخلود، وقد تحلقوا حول الأرطى والعرفج الذي يحترق ليمنحهم الأنس والسمر تحت ظلال سيوفهم ولا يقطع عليهم الحديث إلا صهيل خيولهم، وكأنها شاهدة في تحمحمها على صدق ما يقولون طافوا عراءها بزاد ليس أكثر من تمرة وقدح من لبن، واستفوا ترابها كي لا يرى الفضل عليهم أحد، وصلوا على رمالها وتيمموا بثراها الطاهر، هي مسجدهم وطهورهم، فالذي يظن العربي غادر صحراءه إلى الأبد على جواده المسرج منذ حرب البسوس وداحس والغبراء لا يعرف أن الرحم التي ولدتهم ما زالوا مرتبطين بها بحبل الوفاء، هائمين بهالات الأزرق والفضاء الرحب يصنعون في قصورهم الشامخة جزءاً للصحراء ويمارسون بداوتهم في بيوت الشعر، يثبونها الشكوى ويفزعون إليها إذا ما ضاقت صدورهم من العيش يحبونها وتحبهم بلا عقوق واختزال حتى انهم أطلقوا عليها «المفازة» تيمناً بالنجاة والفوز من مصيرها المؤلم، لوحتهم الهواجر وكذب عليهم السراب وكل ذلك مغفور لها عندهم بل إنهم ألفوا انسانية ذئبها المفترس وأصالة طيورها الجارحة، وولاء إبلها وجموح خيولها الرافضة للسيطرة، يرونها بيتاً للظباء وملتقى للعشاق الذين حفتهم الخزامى والديدحان والشيح والقيصوم وإن عصفت رياحها فهو احتجاج على قساوة الانسان ضد أخيه وضد حيواناتها ونباتاتها، لن يفهمها باختصار إلا عشاقها الذين يرتدون عباءات المروءة والنجدة فوق خيولهم ليسقطوا تحت تصفيق النساء وزغاريدها دفاعاً عن النوع والتاريخ والإنسان، ولن تغفر لكائن من كان تشويه تضاريسها والعبث بتفاصيلها على يد الخنادق والبساطير والمجنزرات، هي كل لا يقبل التجزئة، هكذا خلقت وأريد لها أن تكون شامخة في ذاتها وفي عيون كائناتها، قبل خروج النفط وتشييد المصانع، تحث كلابها على النباح لمن يريد ملاذاً آمناً وطعاماً، وتضفي على عشاقها ملامحها، فحق لهم أن يرتعشوا أمامها، لأنها من رميم أسلافهم الذين ملأوا الدنيا خلوداً وحضارة وإنسانية..لن يفهمها من يخاطبها بلغة غير لغتها العربية، ولا ترضى اللثغة والتأتأ في لسان من يقرأها، تكره الانسان العاق، ولا تفسح مكاناً في فؤادها لمن يعشق الحروب والإبادة والتدمير الذي يأبى إلا أن يرسم لوحاته السوريالية باللون الأحمر شاهداً على أن ما يجري على ظهر هذا الكوكب هراء في هراء ولو كان ببيع أصدقائه وحلفائه بأنجس الأثمان من خلال خطاب تفوح منه الكراهية التي شوهت العالم المتصلب والمتشنج الذي عطل لغة الحوار والتفاهم وعمم السطو والاستيلاء من خلال شعارات مزيفة وديمقراطيات مصنعة يصدرها مثل ذلك المسؤول عندما أعلن في 12 ديسمبر الماضي ما يسمى بمبادرة الشراكة لنشر وتشجيع الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي ولم نفهم طلاسم ذلك الخطاب الذي ألقي تحت قرع طبول الحرب ومباركة لسياسات الدكتاتورية على يد شارون، والأدهى من ذلك أن نشر تلك المبادرة الرخيصة يحتاج إلى «29» مليون دولار وهذا المبلغ لا يكفي صيانة مراحيض جمهورية الأطفال في «والت ديزني» الشهيرة، ما هذه الديمقراطية التي تصدرها البيوت الملونة في تحد صريح لميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع التدخل في شؤون الآخرين وطريقتهم في العيش ويكفل حريتهم في العقيدة والسيادة والنظام الذي يحبون أن يتخذوه.. وما هذا التشويه بحق الصحراء والبيئة؟نعم كوكبنا يمشي بتثاقل إلى العالم الثالث من الألفية الثالثة ليؤكد أن الجميع يجري خلف مضمار انتهى زمنه من سنين عندما فرقوا بين الحرب الباردة والحارة ولا أعرف سر ذلك لأن الحرب لا تقبل التلميع وتحول الانسان إلى مومياء تباع على الرصيف وعلى الطريقة التي أكدها الكاتب الأمريكي «هربرت ماركيوز» في كتابة الانسان ذي البعد الواحد، وأكد معها الشعارات الفاشلة في ظل أنخاب هزيمتنا وعدم تجانسنا انسانياً على يد أولئك الذين وظفوا ميزانيات ضخمة لصناعة أسلحة الدمار الشامل حتى وإن كانوا من أبناء جلدتنا أو غيرهم لا أستثني أحداً، في حين أن الانسان العربي يعيش طريقة بدائية في الحصول على حليب أطفاله ووجباته الغذائية يوماً بيوم بعد شفاعة البطاقة التموينية ثم لا يحلم بأكثر من خيمة على حدود بلاده لاجئاً ينتظر وكالات الاغاثة الدولية وجمعيات الصليب الأحمر ولا يخلو ذلك المنظر من اشتباك بين اللاجئ على الصدقات والخيام، يحكي غسان كنفاني: عن اشتباك وصراع اللاجئين حول نوعية الخيام، وقال يومها عبارته المشهورة «نعم خيمة عن خيمة تفرق» ليشكل ذلك اللاجئ كتلة ديموجرافية صماء لا تثير الشفقة في عين أحد، فقط ترمز إلى هزيمة عصرنا وثقافتنا وعالمنا الانساني الذي يعيش هو أيضاً سجالاً حول تعريف المصطلحات والمرجعيات والقرارات في تلك المناقصة الخرقاء التي تحولت إلى طلاسم ورموز تثبت إدانة الضحية وبراءة المجرم ورسخت مفاهيم عصية على الدمج والقبول على يد عراف يتقن طقوس الشعوذة في عصر العلم والتقدم والازدهار.
أيها السادة: لقد أدرك شاعرنا الجاهلي زهير بن أبي سلمى قبل ألف وخمسمائة سنة خطر الحرب مع أنها كانت بآلات بدائية كالسيف والرمح والفرس وللأسف لم يدرك خطرها ساسة القرن العشرين في ظل تطور أدواتها وآلاتها وخططها الجهنمية، فقال:


فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعاً
بمال ومعروف من الأمر نسلم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

والله من وراء القصد
(*) الإمارات العربية المتحدة - رأس الخيمة

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved