هذه الرؤوس تنكفىء على المنصَّات...، وتلك الأوراق تنتظر واحدتها الأخرى كي تتقدَّم إلى السَّطح بين الأيدي، كي تُفضي الألسن بما ينقشها من الكلمات...
وتلك الرؤوس تحمل الأعين والآذان تتحرك تارةً إلى الأعلى، وتارةً إلى الأدنى...، ومرةً إلى اليمين، وأخرى إلى اليسار...، تحمل الشفاه التي تنفرج مرةً عن ابتسامة، وتزوَرُّ في أُخَر عن امتعاض، وتحمل الآذان التي تُشنَّف أحياناً لما تقول تلك الألسن بأصوات، بعضها واضح، وبعضها يتلعثم، وبعضها تخرج منه الكلمات من غير مخارجها...، شيءٌ فيه لحنٌ، وشيءٌ تعتوره هزة الموقف...!!
والأمكنة تتزاحم...
والطاولات تعجُّ بألوان من المأكولات الخفيفة، وزجاجات المياه المعدنية، وصناديق الورق الملونَّة، وباقات الورود والزهور...، تؤكد احتفالية الناس بمناسبات الكلام...
ثمَّة ما يرهق الخافق وهو يتابع نبض الإجهاد في معاناة من تزجُّهم هذه المنصَّات في غير مواقعهم...، حتى تحدَّثت بعضُ المنصَّات لبعضها...، قالت منصَّة طويلة...: جلس عليََّ نفر، لم أكد أراهم يرتصَّون كلبنات الأعمدة، إلاَّ وأنَّت المقاعد بجواري من ثقل أوزانهم...، لكنَّني ما لبثت أن شعرت بوزني يخفُّ، ويخفُّ، وكدت أن أطير...، وأتجزأ إلى قطع منثورة، قطعةً قطعةً...، وخشيت أن تستقر أوصالي المتناثرة أشلاءً في جوف كلِّ أذن، أو فم، أو عين، في الرؤوس التي أمامي...، لا أدري كيف تثقلُ موازين هذه الرُّتل من الأجساد البشرية، وكيف تخفُّ أوزان ما يقولون...، قالت منصَّة أخرى: أمَّا أنا، فلقد أنهكني الضوء الكثيف الذي سُلِّط عليَّ، فلم أتبيَّن مَنْ بجواري، يرتقون مقاعدي، ولم أشعر بتلك الأيدي، التي تستند إليَّ، حين صعقني صوت النور يشتِّت هدوئي، وحين تناثرت فوق أديمي، أوراقٌ لا يكاد يراها قارئوها..، فتلعثمت شفاهم، والتوت ألسنتهم، وانفضُّوا من حولي، وقد تركوا لي أصداء الأصوات، وغوغاء الكلام، وصهيل النور، حتى تلك الرؤوس التي كانت تقابلني، لم تتبيَّن شيئاً ممَّا يحدث هنا، ولم أكن أرتبط بها بشيء ممَّا يكون!!...
وتشاكلت المنصَّات مع المقاعد...
وولىَّ الناس خروجاً...، وبقي في المكان صدى الفراغ...، ومنادبة المقاعد، والمنصَّآت لفضول ما ترك الإنسان!!
لم يكن من الصعوبة، أن يبصم الجمادُ عليه آثارَ الإنسان...، بينما الإنسان، لا يجد من اليسير عليه، أن يحصد آثارَه، أو يُحصي حركاته...، الإنسانُ يتعاملُ مع ذاته، في منأى عن ذاته، وينسى أنَّ كلَّ شيء شاهد له، أو عليه...، حتى الطاولات، والمقاعد، والجدران، والأقلام، بل الأوراق، والأحبار...، و... كيف ينسى أنَّه صنع شواهده وشاهديه!!...، ولم ينفكَّ من قرائن ما يبصُمُه، في ذهابه، وإيابه، في جلوسه، واضطجاعه، في حركتهِ، وسكنته...، في قوله وفعله....،؟؟؟.
هذا الإنسان...
متى يدرك أنَّ موسم الكلام...
إنَّما هو موسم الأحكام؟!
وأنَّّه مسؤول عن كلامه...
وعن أحكامه؟ ما له منها وما عليه؟
|