Tuesday 14th January,2003 11065العدد الثلاثاء 11 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

هيلدا إسماعيل بين قوسي ميلاد الشعر هيلدا إسماعيل بين قوسي ميلاد الشعر
د . زاهر عثمان

حينما استقبلتُ كتاب «ميلاد بين قوسين» الذي صدر مؤخرا عن دار الفرات في بيروت، وجدتني امام طقوس جديدة للقراءة لم أعتدها من قبل، فقد أثارت عناوين الفصول فضولا شغفا لم يروه جزئيا إلا قراءة مقطع من كل فصل، لأعود من جديد لأقرأ ايضا مقطعا آخر من كل فصل حتى أكملت قراءة الكتاب. عدت بعد ذلك لقراءته حسب ترتيب فصوله ومقاطعه، وكنت أعد الصفحات المتبقية ليس تعجلا للانتهاء من القراءة وانما تخوفا من الانتهاء من الانغماس فيما استغرقت فيه من متعة يسودها مزيد من التأمل لتلك القدرة المبهرة على استدراج الحروف للتحول الى كلمات بديعة واستدراج الكلمات لتصطف مكونة جملا مشرقة التعبيرات بارعة الأفكار.
برزت هيلدا اسماعيل من خلال مشاركاتها المتميزة والمثيرة في منتديات أدبية على الانترنت، ومن خلال ما نشر لها في الصحف والمجلات من قصائد ونصوص نثرية. وكانت مشاركات هيلدا تضيف الى تلك المنتديات مستوى من الرقي، لا أدل عليه الا ما تجتذبه كتاباتها من تفاعلات تضفي أصواتا من موج، وكان الانتظار لما تكتب والتلقي المتلهف له سمة ميزتها عن كتابات كثيرة، وبالرغم من أنها بدت أقرب الى الكتابة النثرية او لعلها بدأت بها، الا انها فاجأت الجميع بقدرتها الشعرية التي لا تقل في مستواها عن كتابتها النثرية وهي أحد ملامح تميز هذه الكاتبة ولم أفاجأ حينما ظهر اسمها ضمن كتاب «شاعرات معاصرات من الجزيرة» لسعود عبد الكريم الفرح، الذي بدت فيه بينهن، رغم حداثة تجربتها، متألقة النضج بارعة الطموح، وإن كان الكتاب قد تعرض للحديث عن تجربتها الشعرية، ولم يورد أيا من نصوصها النثرية رغم انه عرض لما يسمى بالقصائد النثرية لشاعرات أخريات.
يحاول البعض أن يدرج ما بين دفتي «ميلاد بين قوسين» تحت مظلة الشعر، وبالتحديد تحت مسمى القصيدة النثرية، وفي ذلك بعض التجني، الذي قد يبرره ما اعتدنا عليه من تفضيل الشعر على الفنون الأدبية الاخرى، وهي جناية عربية قديمة، ولم تدع الكاتبة التي تؤمن بالتفريق بين الشعر والنثر ان ما كتبته كان شعرا، بل أصرت ان تنفي ذلك حين وصفت ما كتبته بأنه «مقطوعات لم تنثر بعد».
وبالرغم من ان الكتابة كانت نثرية الصياغة الا ان تحليقها في مجال يتسم ببراعة الفكرة ودقة البيان ونفوذ الصور ألقى عليها بعضا من ظلال الشعر، ولعل ذلك ما دعا البعض الى اعتبارها شعرا.
وأحسب ان قراءة لنصوصها الشعرية تبين بجلاء الفرق، ولعل الكاتبة تمنُّ بجمع إبداعها الشعري في ديوان أحسب أن سيكون له صدى مؤثر الوقع على الساحة الأدبية، وإثباتا لحضور جميل لشاعرة سعودية، لعل ما يميزها هو تطور قدرتها المذهل السرعة، واستطاعتها تكوين شخصيتها الأدبية الخاصة.
يضم الكتاب اثنين وعشرين فصلا تفاوتت في مساحاتها، وبالرغم من تباين النصوص في الطول والقصر إلا أنها احتفظت بنفس الروح الشاعرة، وبقوة الأسلوب. وحين اختارت ان تضع لبعض الفصول عناوين كانت تمثل اجزاء متشابكة مع النص فإنها آثرت عدم الاعلان عن محتوى بعض الفصول من خلال عناوين.
ترتسم الكلمات في «ذات ليال ليال أسطورية» معبرة عن أساطير خاصة عملت الكاتبة على ترتيب ابجديتها واختزال مشاعرها لتؤرخها في صميم الذاكرة، واستعرضت الكاتبة ليالي عديدة باحت فيها بشجن عن الغدر والحزن والذكرى والارق والتحول، ثم انتقلت الكاتبة من تلك الليالي لتتحدث عن «العيش في سبات الشعر» لتعرض لما يحدث عند مرمى الظلم.. وخط الزاوية ثم تطرق في الحديث عن ردودها عندما يتلون الفكر، وعندما يأتي المساء لتطلق آهة شجية عندما وجدت الحقيقة، وتختتم الكاتبة الفصل الثالث المتعلق بالليل لتوقظ احيانا مبعثرة بالأحلام تفسر فيها ما يحدث حين تبتل القصائد، وحين تفرط في الغياب، وحين تشتعل الصلوات على الأموات، ثم تشرح ما ينتابها حين ينام صغيرها على يد أو حين يمسك ببندقيته الصغيرة. وكامتداد لشجون الليل تتساءل الكاتبة في «من يعلمني الرقص..!!» لتحدد ساحات متعددة للرقص بسيف الكرامة، والرقص على القلوب، والرقص مع المستحيل ثم الرقص على السحاب والرقص على الرقاب.
وتقف الكاتبة بجرأة في «نحن أكثر مما تتهموننا به» لتقبل الاغتيال بطريقة تحافظ بها على الكبرياء من خلال عرض ردود على تهم يلقيها بعض المحبين لتؤكد انها ليست ساذجة، ولا حزينة ولا هشة، كما انها ليست كاذبة ولا متوحشة او متمردة، ولا حتى عاشقة، وانما هي فوهة بركان خامد يسكن بداخلها مارد غاضب، منذ عصر الجبروت. وبعد ان تقرر ذلك تعلن في «أجد الجرأة الآن» تمردها الذي يمنحها القوة والجرأة لأن ترمي وراءها بكل الذكريات، وتعيد كل الهدايا المحايدة ولتأمر بالاغتسال بريعان انتحاب لائق، ثم تمعن في الجرأة لتقترب لتنفث رائحة النسيان وتصرخ بأن العشق لم يقتلها بعد. وتصر على التنبيه «حذار من هذا الحنين». ومع ذلك فهي تفصح بأن «ليس كل ما يوجع قلبي عشقا» وتفصح أيضا بأن نزار قباني ما زال الملهم وربما المحرِّض. كان «ميلاد» هو الاسم الافتراضي الذي اقتحمت به هيلدا اسماعيل الكتابة، ووفاء منها له استغرقت في «ميلاد» بين «قوسين» في استعراض مراحل متنوعة بدءا ببعد ميلاد الميلاد الى بعد ميلاد التمرد ثم بعد ميلاد الحب الذي يقود الى بعد ميلاد الاعتراف وبعد ميلاد الانتظار، ثم بعد ميلاد الصدق الذي يفضي الى بعد ميلاد الموت، هل كانت ميلاد انعكاسا واقعيا لهيلدا اسماعيل التي احبت ذلك الاسم واختارته لينصع في عنوان كتابها!؟ ليس بالضرورة ذلك، فالمسحة الانسانية العامة للكتاب تجعل من غير الضروري افتراض ذلك الا أن شيئا من ميلاد او هيلدا يبرز على استحياء ليس في «ميلاد» بين «قوسين» فقط، وانما في فصول اخرى. تسند الكاتبة ظهرها على بريق الذكريات متمتمة حين التقينا تسترجع فيها اصداء اللقاء في آهات كانت فيها في هذا الفصل اقرب الى الشعر منها الى النثر، وبعد ذلك تنفس الكاتبة عن نفسها بالحديث عما «سكن» في مثل هذا القلب مغرقة في رومانسية رائقة تحت ظل الاساطير. ويحتفظ هذا الفصل بسمة متعمدة تمثلت بدءاً بعنوان الفصل في الركون الى تحوير تعبيرات متعارف عليها لتثير مفاجأة اللحظة ولتحطَّ على مرفأ التساؤل لتتفتَّح عن معنى غير مسبوق لن تملك إلا البسمة المندهشة وأنت تقرأ عبارات مثل: «في ليلة رأس القمر.. وأتوسد السنين الأمامية للدلال.. وأكون امرأة للمرة «الكاذبة».. في العام الحادي «شعر» الهجري.. وعن ضحكات الأطفال في الحي الثامن من جسدي.. في اليوبيل الرمادي للانتظار.. في العام الايسر ما قبل الميلاد.. وفي شهر «اغريق» الاول.. في السنة الرائعة والعشرين.. قررت ان احل ازمة «الشوق» الأوسط. ونلاحظ ان تلك التعبيرات لم تقع رغم تعددها في فخ التكلف، وبالرغم من انها برزت اكثر في هذا الفصل الا براعة الكاتبة التي استمرأتها ظهرت في فصول اخرى دون أن تثير الا التفاعل. لنقرأ مثلا: «كصفحة بيضاء تسر الوارفين.. كلمات سقطت عمدا.. والاغتسال بريعان انتخابك.. ميعاد الخشوع الى السؤال.. نفس أمارة بالخضوع.. في سالف الفرق والاوان.. ضع نقطة وابدأ من العمر.. لا يزال الموضوع قيد التأني.
تنتزع الكاتبة من جعبتها سهاما تقريعية في «رجل أنت كالآخرين» تفرغ فيها في ردة فعل حانقة كل ما تعرفه لتؤكد له انه ليس الا مثلهم، وترفع راية حلمها حين تهمس انها تخبىء ثقابها تحت الغطاء حتى لا تشعله، وكأن ذلك كان سببا في الانقياد الى «حوارات مختصرة» اتسمت بالصراحة التي طغت عليها عزة النفس التي تفوقت فيها الأنثى. ولعل الكاتبة أرادت ان تخرج الى جو اشد واقعية لتتحدث عن «تكنولوجيا المشاعر» في محاولة جادة لاستنساخ مشاعر تعين في لحظة فراق. ومع ورود مصطلحات تقنية في نصوص هذا الفصل الا أنه لم يخرج عن السمة العامة للكتاب سواء من حيث الروح أو الأسلوب، ولعل ترتيب الفصل كان أفضل لو تسنَّم موقعا آخر في الكتاب.
يسيطر «دخان امرأة تحترق» على الأجواء ليشكل غيمة بارزة الامعان في الأنوثة تجابه رائحة التعدد بتعدد الاشتعال مثيرة تساؤلات لا تنتظر الاجابة، وينساب الكبر الأنثوي في البرقيات الموجهة «الى انثى ما» لتقدم نصائح أو تؤكد مشاعر، وفيما يبدو فإن معظم البرقيات موجه الى شخصيات حقيقية معنيَّة، حتى وإن بدت عامة أحيانا، ولعل هذا ما جعل هذا الفصل أقل حماسا وجرأة من بقية الفصول، بل وبالغ المباشرة والتقليدية أحيانا، ولعل «إلى زوجة ما» مثال لذلك. يأخذ «من عيون المقاهي» منحنى مختلفا بعض الشيء لعل أبرز ملامحه طول نصوصه النسبي، ولعل رمزية المقهى كنقطة لقاء سمحت بذلك مفسحة مجالات أرحب للتمني والتساؤل عبر مقهى اللقاء ومقهى الصباح ومقهى الشوق.. لتتوقف مليا في مقهى «إليك» الذي حمل رسالة تبدو شخصية بعض الشيء وإن كانت رغم الاستطراد فيها تعبيرا لا أدق منه ولا ارق عن معاناة الأنثى عندما تكتب.
أحسب ان ذلك هو ما قاد الى «كان يا ما «شاعر» التي أبرزت الأنثى القصيدة.
يحلو الوقوف «على أعتاب الثلاثين» حيث تختبىء الخطى لتشدنا الدنيا الى الخلف، كما تقول الكاتبة التي أفردت في هذا الفصل لنفسها الواقعية او الافتراضية مجالا واسعا استعرضت فيه شريط الذكريات بتأمل قلق يمتزج أملا يتسلق أحضان الوطن والام ليحنو على المستقبل.
وتنسكب نفس الروح «من الأول.. الى ما بعد الأخير» لتتحدث عن تفاصيل الانتظار عبر ثلاثاءات متعددة محتملة الأمنيات تجاوزت الى ما بعد الأخير.. ربما كانت اجمل لو توقفت عند الثلاثاء الأخير.!
لم تحتمل هيلدا إسماعيل إغفال تعمد التصاق الشعر بها، ولهذا وقفت أمام «جدار وأربع أغنيات» وكتبت،. وكتبت لنكتشف ان كتابتها امتزجت بأبيات لنازك الملائكة في تجانس يجعل من الصعب من الآن فصلهما عن بعض. ولعل «كلمات سقطت عمدا» جاءت لتعيد التوازن النثري في هذا الفصل الأطول الذي حمل الكثير من الحكم والتعريفات، وفاض بالجرأة التي حملت الكلمات أنينها. تمنيت لو أن «أبي» كانت جزءاً من «من مقهى اليك»، وان «عائشة» كانت جزءاً من «إلى أنثى ما»، وتمنيت أكثر ان «مقارنة» و«ثمينة» كانتا أقل تقليدية ومباشرة، وتوقفت وشل العينين أمام «العنقاء» و«اختزال»، وأعلنت خضوعي أمام «مواجهة».
أشفقت عليك البارحة منِّي
فلقد اكتشفت أن السنين لم تعلمك كيف تتفادى عطر الياسمين
والكتابة بالقلم السحري فوق ورقة شاسعة الأنوثة
لم تعلمك السنين..
كيف تقف في وجه امرأة عشرينية
لم يطلق سراح قلبها بعد
يتضح من خلال قراءة المقطوعات النثرية مدى الثقافة العامة الجيدة للكاتبة، وتملُّكها لحس إنساني مرهف، وقد حملت بعض النصوص سمات أنثوية واضحة هي رسائل واثقة تتحدث في جرأة عن المرأة ومشاعرها والدفاع عن حقوقها دون الوقوع في أسلوب الطرح المباشر، محافظة على الرقي الأدبي الذي لم يختلف باختلاف الموضوعات. لا يمكن ان نسلك طريق الختام دون ان نعرِّج على نقطة أحسب الكاتبة تأبى ألا نقف عندها، وهي ذلك الحضور المتميز للقطة في كتاباتها. يعرف من قرأ هيلدا إسماعيل على الانترنت أنها كانت تعلن عن ارتباطها الروحي بالقطة التي كانت تبدو أنيقة في معظم صفحاتها. وقد أكَّدت الكاتبة في كتابها تلك العلاقة، وافترضت معيارا قياسيا قططيا ونبهت الى أنه «ببساطة قل لي من أنت.. أقل لك أي نوع من القطط تقتني». ثم أبرزت حضور القطة اما صراحة او عبر موائها، فهي تقول مثلا:


أحلتني الى امرأة تموء عشقا
أقرر أنني لن أموء بصوت عالٍ
أضرم نيران المواء سمعا وطاعة
أبعثر قططي الى الشوارع

لا تتردد هيلدا إسماعيل في ان تعلن انها الحمامة التي سئمت من الفرار من قنص الصيادين وشباك الاقفاص الصدئة.. فقررت ان تغير ملامحها.. أن تتخلى عن هديلها.. ولونها الأبيض.. ان تلبس فراء لونه أسود.. وتتحول الى قطة تمشط الليل مواء ولا تلاحقها تهمة التفاؤل بالسلام، ومع ذلك فهي تؤكد أنها ليست متوحشة أبدا.. وأنها تلك الميم الموزونة نثرا.. الموؤودة شعرا.. تلك الميمية إذا التي تبدأ بالموت.. وتبدأ أيضا «بالميلاد».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved