Tuesday 14th January,2003 11065العدد الثلاثاء 11 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

رهان الحداثة بين التجلي والتولي..! رهان الحداثة بين التجلي والتولي..!
د. حسن بن فهد الهويمل

والنقاد الذين يرصدون لها من خلال الحركة الداخلية، ليسوا على شيء مما يدور في سائر المشاهد العربية. وتجلي الحداثة في القول او في الفعل يتطلب الدقة في تحديد المراد، والمتعاملون معها بوعي سليم، وتصور دقيق، تعن لهم مجالات وأنواع وقضايا وظواهر. واستدعاء اللغط الدائر حول إقبالها وإدبارها يقتضي الإيماء إلى إشكاليات ثنائية، ففي شأن «الحداثة الأدبية» نجد:-
- حداثة الفن:- السردي والشعري
و- حداثة الدلالة- الفكرية والسلوكية.
و- حداثة النقد: التنظيري والتطبيقي.
وما لم يكن المتحدث على معرفة تامة بهذه الثنائيات فإن حديثه أضغاث احلام. فعلى أي الثنائيات يقوم رهان التولي والانكماش الذي يدعيه البعض؟ وإذا كانت الرؤية الحداثية واضحة لأساطينها في الوطن العربي، متجلية للمتصدين لها هنالك، فإنها لدينا ملتبسة، ذلك أن المتعالقين معها: إما جهلة بمرجعياتها الفكرية والسلوكية، او جهلة بمفاهيمها الفنية المتعددة بتعدد المتصدين لها. وتبذبذها بين: الفن والفكر، وبين الإبداع والنقد، وبين الأداء والتلقي، وبين التشيع والتمنع كل ذلك ومثله معه يزيد في صعوبة الاستيعاب. والقائلون بنكوصها على اعقابها وذهاب ريحها إنما يمنون أنفسهم ويعدونها. وكيف يتصور البعض أن خفوت صوتها علي صفحات الصحف المحلية، وتفرق مدعيها بين المذاهب والتيارات مؤذن بنهايتها؟ وهل الحداثة منتج محلي، بحيث نتحكم بمصائرها؟. وهل لهؤلاء أثر في شيوعها، وتجذرها، وتقلبها في البلاد؟ بحيث ينعكس انطفاؤهم عليها، لقد أحسوا انها سبة الدهر، فخلصوا نجيا، ولم يرحلوا بها معهم إلى ملاذاتهم ومدخلاتهم، بل ظلت كما هي، مع من يملكون قلب المعادلات، والذين فرقتهم أيدي سبأ خرجوا بأقنعة جديدة، وسيظلون يستبدلون قناعاً بآخر، حتى تنفد الأقنعة.
والحداثة بمفهومها الفكري وتصورها الشمولي وانقطاعها المضاعف مع التراث والمتلقي ليست محلية، بل ليست عربية، وريحها العقيم التي هبت على مشاهدنا لم يكن مصدرها من اجوائنا، ولهذا ضوت وخوت، وتوقع البعض انحسارها، بل هبوا لاقتسام الأنفال والغنائم، وإذ تفرق اشياعها في الراهن المحلي فإن ذلك تفرق لا يقلل من أمرها شيئاً. وحين نتقصى إشكاليات الحداثة المشار اليها في مستهل الحديث، نجد أن «المفهومية» إشكالية تطال كل المصطلحات الوافدة، وهي أم المشاكل، ومصدر الإزعاج، ومجال الخلاف والاختلاف، ولو اتفق الجميع على مفهوم المصطلح لحسم الأمر، وقام مقامه الوفاق علي كلمة سواء، ولهذا نجد الوالغين في مستنقعاتها والمدانين بقولهم يدَّعونها، وهم أحق بها وأهلها، كما ان المجددين دونما خطيئة دلالية تقتضيها حداثة الفكر يدَّعونها، وهم ليسوا من اهلها، والذين خبُّوا ووضعوا في مضاميرها، تشبثوا بتعدد المفاهيم، ولاذ بعضهم بمفهوم التجديد، والمتصدون لها، يأخذون «الوالغ» و«المجدد» على حد سواء لانضوائهم تحت مصطلح له مفهومه المنحرف عند المتصدين لها.
والمصطلح حين يتنقل عبر الوهاد والنجاد الفكرية والحضارية تتغير مفاهيمه من محطة الى اخرى، والداخلون فيه، والخارجون منه، او عليه، لا يعطون الوصف الدقيق، فهو في تحول مفهومي مستمر. وقضية «الثبات» و«التحول» مثلما تكون في ممارسة الأداء،تكون في تحديد المؤدى، ولهذا فإننا بحاجة ماسة يفرضها العدل إلى ان نسأل «المتحدثن»» عن حداثته، ما مفهومها عنده؟ وما مقاصدها؟
وعلينا ان نقرأ معطياته الإبداعية، او النقدية، لندينه من فمه، او نصدق دعوى التجديد عنده، ذلك أن الأداء والقول في سلم التقويم الفكري والسلوكي دركات او درجات، ومثلما أن النفاق قسمان:- نفاق عقيدة، ونفاق عمل، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، فإن الحداثة هي الأخرى «حداثة فكر» و «حداثة فن» و«حداثة تجديد» وبين الحداثات مسافات واسعة، لا يعلمها الا قليل، والمراء فيها يؤدي إلى تعميق الخلاف. ومثلما أن «الإسلام» دون «الإيمان»، وقد نُبِهَ الأعرابُ بأن الإيمان لمَّا يدخل في قلوبهم فإنه لا يجوز التغافل عن الدركات حين القول في شأن الحداثة والحداثيين. ولعل القائلين بغياب الحداثة المحلية ينظرون الى انطفاء المصطلح في التداول، دون المفاهيم المتعددة.
ومثلما تختلف «المفاهيم» حول الحداثة تختلف «المجالات». فما مجال الحداثة، أهو اللغة؟ أم الفن؟ أم الفكر؟ أم السلوك؟ أم الحرية الفوضوية؟. إن تحديد المجال الذي تتجسد فيه يحاصر التشتت في المفاهيم، نجد الإبداع عند «أدونيس» له طابعه الحداثي، وهذا يحال إلى الفكر، ونجده عند الروائي «محمد شكري» له طابعه الاخلاقي، وهذا يحال الى السلوك، ونجده عند الشاعر «أنس الحاج» له طابعه اللغوي الانقطاعي وهذا يحال الى الغموض، وإن كانت لبعض هؤلاء شطحات فكرية وسقوط أخلاقي، وهكذا يجلي كل حداثي في أكثر من مجال، ثم تكون له منازعه ونكهته الخاصة، وتجلي التحديث اللغوي والفني عند بعض أولئك لا يشرعن الدلالة والمقاصد.
وتبذبذب المواقف بين الفني والدلالي، وحداثي الأصل والتبعي، يؤدي كل ذلك الى سوء الظن بطائفة من النقاد، حيث اتهموا بالحداثة، وتلبستهم الريبة، لادعائهم إياها في جانبها الفني دون تحفظ او براءة مما يصنع غيرهم، وتلبست الريبة طائفة اخرى اشادت بأساطين الحداثة الفكرية المنحرفة، والتصقت بهم، وخالطتهم، والتفت بعباءاتهم، ولم تعتزلهم حين يخوضون في النيل من ثوابت الأمة.
وإشكالية «المجال» التعدد والتنوع والتباين، فمجال الحداثة «اللغة» بوصفها وعاء الفكر و«الإبداع» بوصفه مجال التجديد والمغايرة و«الأخلاقيات» بوصفها مجال الممارسة و«الفكر» بوصفه مجال الاعتقاد والتصور، و«النقد» بوصفه المنظر والمعذر والمجادل. ثم إن تجليها في «الفن» دون «الدلالة» لا يحمل على التجريم، ولا على التفسيق. فالتجديد في الشكل واللغة والشرط الفني من القضايا التي لا تمس قضايا الفكر والاخلاق. ومن ثم فإنها في بعض المجالات غير مثيرة، لوقوعها في مجال الاختلاف المعتبر. والإشكالية أن طائفة من المتصدين لها لا يفرقون بين المجالات، وفي ذلك ظلم لا يليق. وعند تخطي «المجال» الى «الإقليمية» نجد أن الحداثة تبدت في مشاهدنا الثقافية وتلقفها «عرابات» كثيرون، وتلقفها من هم دون ذلك. فأساطينها من المنظرين والنقاد والمبدعين في الوطن العربي من امثال «أدونيس» و«جابر عصفور» و«الماغوط» و«الصائغ» و«الخال» و«درويش» يدركون أبعادها الفكرية والفنية، ويتصورونا كما لو كانت من عند انفسهم. أما من هم دون ذلك من المتعالقين معها دون وعي، ودون ثقاقة، ودون فهم دقيق، فهم غوغاء لا تؤخذ منهم عينة، ولا ترصد حركتها من خلال سكونهم أو تحركهم. ولهذا تجد طائفة منهم تدعيها في تباه وتطاول، ولا تقول من خلالها، وطائفة أخرى مرت بها، ولم تتلبث بها الا قليلاً، وأوزاع حاولت أن تقلد في الإبداع السردي او الشعري، فلم تفلح، ولأن الجميع في ركابها زوائد وزبد، وليسوا أصولاً ومنافع، فقد تساقطوا كورق الخريف، ثم انسحقوا، وذرتهم الرياح. وأمام هذا الاضمحلال تصور الراصدون المحليون أن الحداثة ذهبت بذهابهم، وما علموا انها قائمة بذهابهم، وستظل قائمة، وإن خبت جذوتها المقتبسة في المشهد المحلي. اما عن «الادعاء» فحدث ولا حرج. وكما أن الحديث عن بني اسرائيل مباح على اطلاقه فإن الحديث عن غثائيات المدعين كذلك، ومدعو الحداثة يحفزهم عشق الأضواء والحضور والإثارة، ولما يدركوا خطورة الانتماء لمذهب فكري منحرف باعتراف أساطينه. ومثلما يغثينا أدعياء الحداثة يغثينا المتصدون لها بدون فهم، ومشهدنا مليء من هذه النوعيات التي لا تتقن إلا شهادة الزور، وتزكية من لا تعرف، والركض في فجاج التيه، والقضية في النهاية كما «الجيش» و«القتام» يعلو الاخف وينحط الاثقل. وما على المراهنين على زوالها إلا أن تعدو عيونهم الى مطارحها في الآفاق، ليروها جذعة قوية، وكيف نقطع بزوالها وشيطانها الذي يؤز قومها من المنظرين إلى يوم الدين.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved