Monday 13th January,2003 11064العدد الأثنين 10 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
مهرجان العصافير
عبدالرحمن صالح العشماوي

كانت العصافير قد أعلنتْ بتغريدها طلوع الفجر، حيث تبدأ قبل انبثاق نوره بحركتها الدائبة في أعشاشها التي بَنتها بمهارة عجيبة على فروع أغصان شجرة السِّدر الشامخة التي تمدُّ ظلالها في فناء المنزل... نعم، العصافير تبدأ التغريد قُبيل أذان الفجر، وكأنَّها تنشد ألحان الفرحة ببزوغ يومها الجديد، وتردًّد أناشيد العتاب لنا نحن البشر الذين نحرم أنفسنا جمال إشراقة الصَّباح بتلك الإغفاءةِ الصباحية التي تحول بيننا وبين احتفال الآفاق بأضواء الفجر وأشعة الشمس.
يا له من فجرٍ جميل...!!
صورٌ كثيرة ترسمها ريشته المضيئة على صفحات مخيِّلتي، صورٌ لعظمة هذا الكون والتي تدلُّ على عظمة مبدعه وخالقه سبحانه وتعالى.
مهرجان العصافير رائعٌ في ذلك الصَّباح، ها هي ذي تبدأ الرَّفْرفة بأجنحتها متنقلةٌ بين أغصان شجرة السدر، وزَقزقَةُ صغارها تشرح الصدر، وتستثير كوامن الفكر.
دقائق معدودات مرَّت بي في موقع مراقبتي للعصافير، بعدها توجَّهَتْ أسرابُها بصورة رائعةٍ تثير الإعجاب، سبحان الله، آلاف العصافير انطلقت أمامي مغادرةً فراخَها وأعشاشها مع ذلك الصباح الجميل، وغابت في الأفق.
إلى أين تنطلق تلك الأَسراب؟!
لم تُمهلْني ذاكرتي، بل عرضتْ في ذهني مباشرة عبارات ذلك الحديث الشريف وكأنَّّها أرادتْ أنْ تجيبني عن سؤالي إجابةً سريعة:
«لو توكَّلْتم على الله حقَّ التوكُّل، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطانا»، لله هذه الفصاحة النبوية الآسرة.... «تغدو؟»، نعم، وها هي ذي العصافير قد غدت أمامي في هذا الصباح الجميل... «خِمَاصاً؟» ، نعم، إنها بلا شكٍ جائعة ولهذا غدتْ تبحث عن رزقها... «وتروح؟»، نعم، لقد رأيتها أكثر من مرةٍ ترتدي رداء الشفق الأحمر في بدايات انطواءٍ النهار وقبيل غروب الشمس، وهي تعود إلى أعشاشها في سدرة المنزل، وتغرِّد وتٌزَقْزِقُ حتى أتخيَّل أنها تتحدث مع بعضها بأخبار رحلتها في ذلك اليوم... «بطاناً؟»، نعم، تروح وقد شبعتْ وملأتْ بطونها.
وتأمُّلْتُ «المقابلة البلاغية» الجميلة، بين تغدو خماصاً، وتروح بطاناً، ولاح في ذهني سؤال: لماذا تختار البلاغة النبوية كلمتي «خماصاً، وبطاناً» دونَ غيرها من الكلمات الدالَّةِ على الجوع والشِّبَع؟!
إنَّ كتب اللغة تقول: الخَمْصَةُ: الجَوْعة، والمَخْمَصَةُ: المَجاعة، والخَميصُ: ضامرُ البطن، إنَّّها أشدُّ حالات الجوع، لأنَّ المخلوقات يمكن أن تشعر بالجوع حينما يحلُّ وقت طعامها ولو لم تكن فارغةَ البطن، فلا يكون التعبير هنا دقيقاً، وإِنما الأَدَقُّ منه التعبير بالمَخْمَصة التي هي أقصى حالات الجوع حيث يضمرُ البطن.
أمَّا «البِطْنَة» فإنَّ كتب اللغة تقول: إنها امتلاءُ البطن، يقال: بَطنَ يبطَنٌ بَطَنَاً، عَظُمَ بطنه من الشًّبَع، والِبطْنَةُ: الكِظَّة، وهي أن تمتلىء من الطعام امتلاءً شديداً.
يا له من جوابٍ عن السؤال الذي خطر بالبال، ويا لها من لغةٍ عربيةٍ عظيمة، ويا لَها من بلاغةٍ نبويةٍ لا تجارى!!.
كم نحن بحاجةٍ إلى أن نعلِّم أجيالنا لغتنا العربيَّةَ الفصحى، لغةَ البلاغة والبيان ولغة السَّعَةِ والشمول، ولغة الدِّقَّةِ وعُمْقَ الدِّلالة، ولغة الوضوح، ولغةَ الإيجاءِ الجميل.
ربَّما يمرُّ الجاهل باللغة، أو المقصِّر في معرفةِ إيحاءَاتها بهذا الحديث الشريف مروراً سريعاً دون أنْ يفطن إلى هذه الدقِّة في استخدام العبارة، فما دام المقام مقام التأكيد النبوي على تكفُّل الله عزَّ وجلّ برزق عباده المتوكِّلين عليه حقَّ التوكُّل، فإنَّ التعبير بالَمخْمَصة وهي أشدُّ الجوع، وبالبِطْنَة وهي أشدُّ الشِّبَع، هو الأنسب والأمثل والأَدَقَّ في أداءِ المعنى المُراد.
كم نحن بحاجةٍ إلى هذا الكنز البيانيِّ العظيم
إشارة:


من جذور اللغة الفصحى انطلقْنا
نملأ الدنيا صدىً عَذْباَ شجيَّا
وبها نتلو كتابَ الله غَضَّاً
مثلما أنزله الله طريَّا
لغةٌ ما سافر الإبداعُ فيها
سفراَ إلا أعادتْه فتيَّا

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved